الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في قضائه صلى الله عليه وسلم بتأخير القصاص من الجرح حتى يندمل

ذكر عبد الرزاق في " مصنفه " وغيره : من حديث ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل طعن آخر بقرن في رجله ، فقال : يا رسول الله ، أقدني ، فقال : " حتى تبرأ جراحك " ، فأبى الرجل إلا أن يستقيده ، فأقاده النبي صلى الله عليه وسلم ، فصح المستقاد منه ، وعرج المستقيد ، فقال : عرجت وبرأ صاحبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألم آمرك أن لا تستقيد حتى تبرأ جراحك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك " ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان به جرح بعد الرجل الذي عرج أن لا يستقاد منه حتى يبرأ جرح صاحبه . فالجراح على ما بلغ حتى يبرأ ، فما كان من عرج أو شلل ، فلا قود فيه ، وهو عقل ، ومن استقاد جرحا فأصيب المستقاد منه ، فعقل ما فضل من ديته على جرح صاحبه له .

قلت : الحديث في " مسند الإمام أحمد " من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده متصل ، أن رجلا طعن بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقدني . فقال : " حتى تبرأ " ، فقال : أقدني . فأقاده ، ثم جاء إليه ، فقال : يا [ ص: 18 ] رسول الله! عرجت ، فقال : " قد نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجتك " ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه .

وفي سنن الدارقطني : عن جابر رضي الله عنه ، أن رجلا جرح ، فأراد أن يستقيد ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح .

وقد تضمنت هذه الحكومة ، أنه لا يجوز الاقتصاص من الجرح حتى يستقر أمره ، إما باندمال ، أو بسراية مستقرة ، وأن سراية الجناية مضمونة بالقود وجواز القصاص في الضربة بالعصا والقرن ونحوهما ، ولا ناسخ لهذه الحكومة ، ولا معارض لها ، والذي نسخ بها تعجيل القصاص قبل الاندمال لا نفس القصاص فتأمله ، وأن المجني عليه إذا بادر واقتص من الجاني ، ثم سرت الجناية إلى عضو من أعضائه ، أو إلى نفسه بعد القصاص ، فالسراية هدر .

وأنه يكتفى بالقصاص وحده دون تعزير الجاني وحبسه ، قال عطاء : الجروح قصاص ، وليس للإمام أن يضربه ولا يسجنه ، إنما هو القصاص ، وما كان ربك نسيا ، ولو شاء لأمر بالضرب والسجن . وقال مالك : يقتص منه بحق الآدمي ، ويعاقب لجرأته .

والجمهور يقولون : القصاص يغني عن العقوبة الزائدة ، فهو كالحد إذا أقيم على المحدود ، لم يحتج معه إلى عقوبة أخرى .

والمعاصي ثلاثة أنواع : نوع عليه حد مقدر ، فلا يجمع بينه وبين [ ص: 19 ] التعزير . ونوع لا حد فيه ، ولا كفارة ، فهذا يردع فيه بالتعزير ، ونوع فيه كفارة ، ولا حد فيه ، كالوطء في الإحرام والصيام ، فهل يجمع فيه بين الكفارة والتعزير ؟ على قولين للعلماء ، وهما وجهان لأصحاب أحمد ، والقصاص يجري مجرى الحد ، فلا يجمع بينه وبين التعزير .

التالي السابق


الخدمات العلمية