الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 271 ] سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه عن " العقل " الذي للإنسان هل هو عرض ؟ وما هي " الروح " المدبرة لجسده ؟ هل هي النفس ؟ وهل لها كيفية تعلم ؟ وهل هي عرض أو جوهر ؟ وهل يعلم مسكنها من الجسد ؟ ومسكن العقل ؟ .

                [ ص: 292 ]

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله رب العالمين . " العقل " في كتاب الله وسنة رسوله وكلام الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو أمر يقوم بالعاقل سواء سمي عرضا أو صفة ليس هو عينا قائمة بنفسها سواء سمي جوهرا أو جسما أو غير ذلك . وإنما يوجد التعبير باسم " العقل " عن الذات العاقلة التي هي جوهر قائم بنفسه في كلام طائفة من المتفلسفة الذين يتكلمون في العقل والنفس ويدعون ثبوت عقول عشرة كما يذكر ذلك من يذكره من أتباع أرسطو أو غيره من المتفلسفة المشائين . ومن تلقى ذلك عنهم من المنتسبين إلى الملل .

                وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وبين أن ما يذكرونه [ ص: 272 ] من العقول والنفوس والمجردات والمفارقات والجواهر العقلية لا يثبت لهم منه إلا نفس الإنسان وما يقوم بها من العلوم وتوابعها ; فإن أصل تسميتهم لهذه الأمور مفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس البدن بالموت وهذا أمر صحيح فإن نفس الميت تفارق بدنه بالموت وهذا مبني على أن النفس قائمة بنفسها تبقى بعد فراق البدن بالموت منعمة أو معذبة وهذا مذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم وهو قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين وإن كان كثير من أهل الكلام يزعمون أن النفس هي الحياة القائمة بالبدن .

                ويقول بعضهم : هي جزء من أجزاء البدن
                كالريح المترددة في البدن أو البخار الخارج من القلب .

                ففي الجملة النفس المفارقة للبدن بالموت ليست جزءا من أجزاء البدن ولا صفة من صفات البدن عند سلف الأمة وأئمتها . وإنما يقول هذا وهذا من يقوله من أهل الكلام المبتدع المحدث من أتباع الجهمية والمعتزلة ونحوهم . والفلاسفة المشاءون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن ; لكن يصفون النفس بصفات باطلة فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلا . والعقل عندهم هو المجرد عن المادة وعلائق المادة والمادة عندهم هي الجسم وقد يقولون : هو المجرد عن التعلق بالهيولى والهيولى في لغتهم هو بمعنى المحل . ويقولون : المادة والصورة .

                [ ص: 273 ] والعقل عندهم جوهر قائم بنفسه لا يوصف بحركة ولا سكون ولا تتجدد له أحوال ألبتة .

                فحقيقة قولهم أن النفس إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال لا علوم ولا تصورات . ولا سمع ولا بصر ولا إرادات . ولا فرح وسرور ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلا وأبدا كما يزعمونه في العقل والنفس . ثم منهم من يقول : إن النفوس واحدة بالعين . ومنهم من يقول : هي متعددة . وفي كلامهم من الباطل ما ليس هذا موضع بسطه .

                وإنما المقصود التنبيه على ما يناسب هذا الموضع : فهم يسمون ما اقترن بالمادة التي هي الهيولى وهي الجسم في هذا الموضع نفسا كنفس الإنسان المدبرة لبدنه . ويزعمون أن للفلك نفسا تحركه كما للناس نفوس لكن كان قدماؤهم يقولون : إن نفس الفلك عرض قائم بالفلك كنفوس البهائم وكما يقوم بالإنسان الشهوة والغضب لكن طائفة منهم كابن سينا وغيره زعموا أن النفس الفلكية جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان وما دامت نفس الإنسان مدبرة لبدنه سموها نفسا فإذا فارقت سموها عقلا ; لأن العقل عندهم هو المجرد عن المادة وعن علائق المادة . وأما النفس فهي المتعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصريف .

                [ ص: 274 ] وأصل تسميتهم هذه مجردات هو مأخوذ من كون الإنسان يجرد الأمور العقلية الكلية عن الأمور الحسية المعينة فإنه إذا رأى أفرادا للإنسان كزيد وعمرو عقل قدرا مشتركا بين الأناسي وبين الإنسانية الكلية المشتركة المعقولة في قلبه . وإذا رأى الخيل والبغال والحمير وبهيمة الأنعام وغير ذلك من أفراد الحيوان عقل من ذلك قدرا كليا مشتركا بين الأفراد وهي الحيوانية الكلية المعقولة . وإذا رأى مع ذلك الحيوان والشجر والنبات عقل من ذلك قدرا مشتركا كليا وهو الجسم النامي المغتذي وقد يسمون ذلك النفس النباتية . وإذا رأى مع ذلك سائر الأجسام العلوية الفلكية والسفلية العنصرية عقل من ذلك قدرا مشتركا كليا هو الجسم العام المطلق وإذا رأى ما سوى ذلك من الموجودات عقل من ذلك قدرا مشتركا كليا وهو الوجود العام الكلي الذي ينقسم إلى جوهر وعرض وهذا الوجود هو عندهم موضوع " العلم الأعلى " الناظر في الوجود ولواحقه وهي " الفلسفة الأولى " و " الحكمة العليا " عندهم .

                وهم يقسمون الوجود : إلى جوهر وعرض والأعراض يجعلونها " تسعة أنواع " هذا هو الذي ذكره أرسطو وأتباعه يجعلون هذا من جملة المنطق ; لأن فيه المفردات التي تنتهي إليها الحدود المؤلفة وكذلك من سلك سبيلهم ممن صنف في هذا الباب كابن حزم وغيره .

                وأما ابن سينا وأتباعه فقالوا : " الكلام في هذا لا يختص بالمنطق " [ ص: 275 ] فأخرجوها منه وكذلك من سلك سبيل ابن سينا كأبي حامد والسهروردي المقتول والرازي والآمدي وغيرهم . وهذه هي " المقولات العشر " التي يعبرون عنها بقولهم : الجوهر . والكم . والكيف . والأين . ومتى والإضافة والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل وقد جمعت في بيتين وهي :

                زيد الطويل الأسود ابن مالك في داره بالأمس كان متكي في يده سيف نضاه فانتضا
                فهذه عشر مقولات سوا

                وأكثر الناس من أتباعه وغير أتباعه أنكروا حصر الأعراض في تسعة أجناس وقالوا : إن هذا لا يقوم عليه دليل . ويثبتون إمكان ردها إلى ثلاثة وإلى غير ذلك من الأعداد . وجعلوا الجواهر " خمسة أنواع " : الجسم والعقل والنفس والمادة والصورة .

                فالجسم جوهر حسي والباقية جواهر عقلية ; لكن ما يذكرونه من الدليل على إثبات الجواهر العقلية إنما يدل على ثبوتها في الأذهان لا في الأعيان .

                وهذه التي يسمونها " المجردات العقلية " ويقولون : الجواهر تنقسم إلى ماديات ومجردات فالماديات القائمة بالمادة وهي الهيولى وهي الجسم والمجردات هي المجردات عن المادة وهذه التي يسمونها المجردات أصلها هي هذه الأمور [ ص: 276 ] الكلية المعقولة في نفس الإنسان كما أن المفارقات أصلها مفارقة النفس البدن وهذان أمران لا ينكران ; لكن ادعوا في صفات النفس وأحوالها أمورا باطلة وادعوا أيضا ثبوت جواهر عقلية قائمة بأنفسها ويقولون فيها : العاقل والمعقول والعقل شيء واحد كما يقولون : مثل ذلك في رب العالمين . فيقولون : هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة .

                ويجعلون الصفة عين الموصوف ويجعلون كل صفة هي الأخرى فيجعلون نفس العقل الذي هو العلم نفس العاقل العالم ونفس العشق الذي هو الحب نفس العاشق المحب ونفس اللذة هي نفس العلم ونفس الحب ويجعلون القدرة والإرادة هي نفس العلم فيجعلون العلم هو القدرة وهو الإرادة وهو المحبة وهو اللذة ويجعلون العالم المريد المحب الملتذ هو نفس العلم الذي هو نفس الإرادة وهو نفس المحبة وهو نفس اللذة فيجعلون الحقائق المتنوعة شيئا واحدا ويجعلون نفس الصفات المتنوعة هي نفس الذات الموصوفة ثم يتناقضون فيثبتون له علما ليس هو نفس ذاته كما تناقض ابن سينا في إشاراته . وغيره من محققيهم وبسط الكلام في الرد عليهم بموضع آخر .

                والمقصود أنهم يعبرون بلفظ العقل عن جوهر قائم بنفسه ويثبتون جواهر عقلية يسمونها المجردات والمفارقات للمادة وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن عندهم غير نفس الإنسان التي يسمونها الناطقة وغير ما يقوم بها من المعنى الذي يسمى عقلا .

                [ ص: 277 ] وكان أرسطو وأتباعه يسمون " الرب " عقلا وجوهرا . وهو عندهم لا يعلم شيئا سوى نفسه ولا يريد شيئا ولا يفعل شيئا ويسمونه " المبدأ " و " العلة الأولى " لأن الفلك عندهم متحرك للتشبه به أو متحرك للشبه بالعقل فحاجة الفلك عندهم إلى العلة الأولى من جهة أنه متشبه بها كما يتشبه المؤتم بالإمام والتلميذ بالأستاذ . وقد يقول : إنه يحركه كما يحرك المعشوق عاشقه ليس عندهم أنه أبدع شيئا ولا فعل شيئا ولا كانوا يسمونه واجب الوجود ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن ويجعلون الممكن هو موجودا قديما أزليا كالفلك عندهم .

                وإنما هذا فعل ابن سينا وأتباعه وهم خالفوا في ذلك سلفهم وجميع العقلاء وخالفوا أنفسهم أيضا فتناقضوا ; فإنهم صرحوا بما صرح به سلفهم وسائر العقلاء من أن الممكن الذي يمكن أن يكون موجودا وأن يكون معدوما لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم .

                وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم بل كل ما قبل الوجود والعدم لم يكن إلا محدثا وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله فهو محدث مسبوق بالعدم كائن بعد أن لم يكن كما بسط في موضعه .

                لكن ابن سينا ومتبعوه تناقضوا فذكروا في موضع آخر أن الوجود ينقسم إلى : واجب وممكن . وأن الممكن قد يكون قديما أزليا لم يزل ولا يزال يمتنع [ ص: 278 ] عدمه ويقولون : هو واجب بغيره وجعلوا الفلك من هذا النوع ; فخرجوا عن إجماع العقلاء الذين وافقوهم عليه في إثبات شيء ممكن يمكن أن يوجد وألا يوجد وأنه مع هذا يكون قديما أزليا أبديا ممتنع العدم واجب الوجود بغيره فإن هذا ممتنع عند جميع العقلاء . وذلك بين في صريح العقل لمن تصور حقيقة الممكن الذي يقبل الوجود والعدم كما بسط في موضعه .

                وهؤلاء المتفلسفة إنما تسلطوا على المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم ; لأن هؤلاء لم يعرفوا حقيقة ما بعث الله به رسوله . ولم يحتجوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول . فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل . حتى قالوا : إن الله لم يزل لا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيئته ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلما بمشيئته ثم حدث ما حدث من غير تجدد سبب حادث وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلما بمشيئته فعالا لما يشاء ; لزعمهم امتناع دوام الحوادث ثم صار أئمتهم كالجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف إلى امتناع دوامها في المستقبل والماضي فقال الجهم : بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل : بفناء حركاتهما وأنهم يبقون دائما في سكون ويزعم بعض من سلك هذه السبيل أن هذا هو مقتضى العقل وأن كل ما له ابتداء فيجب أن يكون له انتهاء .

                ولما رأوا الشرع قد جاء بدوام نعيم أهل الجنة كما قال تعالى : { أكلها دائم وظلها } وقال : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } ظنوا أنه يجب تصديق الشرع فيما خالف فيه أهل العقل ولم يعلموا أن الحجة العقلية الصريحة لا تناقض الحجة الشرعية الصحيحة بل يمتنع تعارض الحجج الصحيحة سواء كانت عقلية أو سمعية أو سمعية وعقلية . بل إذا تعارضت حجتان دل على فساد إحداهما أو فسادهما جميعا .

                وصار كثير منهم إلى جواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي وذكروا فروعا عرف حذاقهم ضعفها كما بسط في غير هذا الموضع . وهو لزومهم أن يكون الرب كان غير قادر ثم صار قادرا من غير تجدد سبب يوجب كونه قادرا وأنه لم يكن يمكنه أن يفعل ولا يتكلم بمشيئته ثم صار الفعل ممكنا له بدون سبب يوجب تجدد الإمكان . وإذا ذكر لهم هذا قالوا : كان في الأزل قادرا على ما لم يزل فقيل لهم : القادر لا يكون قادرا مع كون المقدور ممتنعا بل القدرة على الممتنع ممتنعة وإنما يكون قادرا على ما يمكنه أن يفعله فإذا كان لم يزل قادرا فلم يزل يمكنه أن يفعل .

                ولما كان أصل هؤلاء هذا صاروا في كلام الله على ثلاثة أقوال .

                ( فرقة قالت : الكلام لا يقوم بذات الرب بل لا يكون كلامه إلا مخلوقا ; لأنه إما قديم وإما حادث ويمتنع أن يكون قديما لأنه متكلم بمشيئته وقدرته والقديم لا يكون بالقدرة والمشيئة وإذا كان الكلام [ ص: 280 ] بالقدرة والمشيئة كان مخلوقا لا يقوم بذاته . إذ لو قام بذاته كانت قد قامت به الحوادث والحوادث لا تقوم به لأنها لو قامت به لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث .

                قالوا : إذ بهذا الأصل أثبتنا حدوث الأجسام وبه ثبت حدوث العالم . قالوا : ومعلوم أن ما لم يسبق الحادث لم يكن قبله إما معه وإما بعده . وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث . وكثير منهم لم يتفطن للفرق بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين فإن الحادث المعين والحوادث المحصورة يمتنع أن تكون أزلية دائمة وما لم يكن قبلها فهو إما معها وإما بعدها وما كان كذلك فهو حادث قطعا . وهذا لا يخفى على أحد .

                ولكن موضع النظر والنزاع " نوع الحوادث " . وهو أنه هل يمكن أن يكون النوع دائما فيكون الرب لا يزال يتكلم أو يفعل بمشيئته وقدرته أم يمتنع ذلك ؟ فلما تفطن لهذا الفرق طائفة قالوا : وهذا أيضا ممتنع لامتناع حوادث لا أول لها وذكروا على ذلك حججا كحجة التطبيق وحجة امتناع انقضاء ما لا نهاية له وأمثال ذلك . وقد ذكر عامة ما ذكر في هذا الباب وما يتعلق به في مواضع غير هذا الموضع ولكل مقام مقال .

                وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يعلم بطلانه بصريح العقل وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث ويمتنع كون الرب يصير فاعلا بعد [ ص: 281 ] أن لم يكن . وأن المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه - ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول فقد سلم لهم ما ادعوه عن " قدم العالم " كالأفلاك وجنس المولدات ومواد العناصر وضلوا ضلالا عظيما خالفوا به صرائح العقول وكذبوا به كل رسول .

                فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن . ليس مع الله شيء قديم بقدمه وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام . والعقول الصريحة تعلم أن الحوادث لا بد لها من محدث فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها لم يكن في العالم شيء من الحوادث . فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع فإنه إذا كان معلولها لازما لها كان قديما معها لم يتأخر عنها فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث وهؤلاء فروا من أن يحدثها القادر بغير سبب حادث وذهبوا إلى أنها تحدث بغير محدث أصلا لا قادر ولا غير قادر . فكان ما فروا إليه شرا مما فروا منه وكانوا شرا من المستجير من الرمضاء بالنار .

                واعتقد هؤلاء أن المفعول المصنوع المبتدع المعين كالفلك يقارن فاعله أزلا وأبدا لا يتقدم الفاعل عليه تقدما زمانيا وأولئك قالوا : بل المؤثر التام يتراخى عنه أثره ثم يحدث الأثر من غير سبب اقتضى حدوثه فأقام الأولون الأدلة العقلية الصريحة على بطلان هذا كما أقام هؤلاء الأدلة العقلية الصريحة [ ص: 282 ] على بطلان قول الآخرين ولا ريب أن قول هؤلاء أهل المقارنة أشد فسادا ومناقضة لصريح المعقول . وصحيح المنقول من قول أولئك أهل التراخي .

                و ( القول الثالث الذي يدل عليه المعقول الصريح ويقر به عامة العقلاء ودل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة لم يهتد له الفريقان : وهو أن المؤثر التام يستلزم وقوع أثره عقب تأثره التام لا يقترن به ولا يتراخى كما إذا طلقت المرأة فطلقت . وأعتقت العبد فعتق . وكسرت الإناء فانكسر وقطعت الحبل فانقطع فوقوع العتق والطلاق ليس مقارنا لنفس التطليق والإعتاق بحيث يكون معه ولا هو أيضا متراخ عنه بل يكون عقبه متصلا به . وقد يقال هو معه ومفارق له باعتبار أنه يكون عقبه متصلا به كما يقال : هو بعده متأخر عنه باعتبار أنه إنما يكون عقب التأثير التام ولهذا قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } فهو سبحانه يكون ما يشاء تكوينه فإذا كونه كان عقب تكوينه متصلا به لا يكون مع تكوينه في الزمان ولا يكون متراخيا عن تكوينه بينهما فصل في الزمان ; بل يكون متصلا بتكوينه كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض .

                وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن وإن قيل مع ذلك بدوام فاعليته ومتكلميته وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .

                [ ص: 283 ] و ( المقصود هنا أن هذا هو أصل من قال القرآن محدث ومن قال إن الرب لم يقم به كلام ولا إرادة بل ولا علم بل ولا حياة ولا قدرة ولا شيء من الصفات . فلما ظهر فساد هذا القول شرعا وعقلا قالت طائفة ممن وافقتهم على أصل مذهبهم : هو لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه أمر لازم لذاته كما تلزم ذاته الحياة ثم منهم من قال : هو معنى واحد لامتناع اجتماع معان لا نهاية لها في آن واحد وامتناع تخصيصه بعدد دون عدد وقالوا : ذلك المعنى هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر عنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا . وقالوا : إن الأمر والنهي صفات للكلام لا أنواع له . فإن معنى " آية الكرسي " و " آية الدين " و { قل هو الله أحد } و { تبت يدا أبي لهب } معنى واحد .

                فقال جمهور العقلاء لهم : تصور هذا القول يوجب العلم بفساده وقالوا لهم : موسى سمع كلام الله كله أو بعضه . إن قلتم كله لزم أن يكون قد علم علم الله . وإن قلتم بعضه فقد تبعض . وقالوا لهم : إذا جوزتم أن تكون حقيقة الخبر هي حقيقة الأمر وحقيقة النهي عن كل منهي عنه . والأمر بكل مأمور به هو حقيقة الخبر عن كل مخبر عنه فجوزوا أن تكون حقيقة العلم هي حقيقة القدرة وحقيقة القدرة هي حقيقة الإرادة . فاعترف حذاقهم بأن هذا لازم لهم لا محيد لهم عنه ولزمهم إمكان أن تكون حقيقة الذات هي حقيقة الصفات وحقيقة الوجود الواجب هي حقيقة الوجوب الممكن والتزم ذلك طائفة منهم فقالوا : [ ص: 284 ] الوجود واحد وعين الوجود الواجب القديم الخالق هو عين الوجود الممكن المخلوق المحدث .

                وهذا أصل قول القائلين بوحدة الوجود كابن عربي الطائي وابن سبعين وأتباعهما كما بسط في مواضع .

                ومن هؤلاء القائلين بأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته مع قيام الكلام به من قال : كلامه المعين حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال . وزعموا أن كلا من القرآن والتوراة والإنجيل حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل ولا تزال فقال لهم جمهور العقلاء : معلوم بالاضطرار أن الباء قبل السين والسين قبل الميم فكيف يكونان معا أزلا وأبدا ومعلوم أن الصوت المعين لا يبقى زمانين فكيف يكون أزليا لم يزل ولا يزال .

                فقالت ( الطائفة الثالثة - ممن سلك مسلك أولئك المتكلمين - بل نقول إنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة وإن لزم من ذلك قيام الحوادث به فلا محذور في ذلك لا شرعا ولا عقلا بل هذا لازم لجميع طوائف العقلاء وعليه دلت النصوص الكثيرة وأقوال السلف والأئمة . ونقول : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى كما دلت على ذلك النصوص وأقوال السلف لكن نقول إنه لم يكن في الأزل متكلما ويمتنع أن [ ص: 285 ] يكون لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته لأن ذلك يستلزم حوادث لا أول لها . وهو أصل هؤلاء .

                فقيل لهم : معلوم أن الكلام صفة كمال لا صفة نقص وأن من يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يكون قادرا على الكلام بمشيئته وقدرته . وحينئذ فمن لم يزل متكلما بمشيئته أكمل ممن صار قادرا على الكلام بعد أن كان لا يمكنه أن يتكلم .

                وقالوا لهم : إذا قلتم تكلم بعد أن كان الكلام ممتنعا من غير أن يكون هناك سبب أوجب تجدد قدرته وتجدد إمكان الكلام له قلتم إنه لم يزل غير قادر على الكلام ولم يزل الكلام غير ممكن له ثم صار قادرا يمكنه أن يتكلم بمشيئته من غير حدوث شيء وهذا مخالفة لصريح العقل وسلب لصفات الكمال عن الباري وجعله مثل المخلوق الذي صار قادرا على الكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه .

                والسلف والأئمة نصوا على أن الرب تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء كما نص على ذلك عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة الدين وسلف المسلمين وهم الذين قالوا بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق . لم يقل أحد منهم أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته . ولا قال أحد منهم إنه مخلوق بائن [ ص: 286 ] عنه . ولا قال أحد منهم إنه صار متكلما أو قادرا على الكلام بعد أن لم يكن كذلك . وقد بسطت هذه الأمور في موضع آخر .

                و ( المقصود أن هذه الأقوال التي قالها هؤلاء المتكلمون من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والسالمية ومن وافقهم من المتأخرين الذين انتسبوا إلى بعض الأئمة الأربعة وخالفوا بها إجماع السلف والأئمة وما جاء به الكتاب والسنة وخالفوا بها صريح المعقول الذي فطر الله عليه عباده هي التي سلطت أولئك المتفلسفة الدهرية عليهم لكن قول الفلاسفة أعظم فسادا في المعقول والمنقول .



                فصل و ( المقصود هنا أن اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة وهو الذي يسمى عرضا قائما بالعاقل . وعلى هذا دل القرآن في قوله تعالى { لعلكم تعقلون } . وقوله : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } . وقوله : { قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } ونحو ذلك مما يدل على أن العقل مصدر عقل يعقل عقلا وإذا كان كذلك فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه . ولا العمل بلا علم ; بل إنما يسمى به العلم [ ص: 287 ] الذي يعمل به والعمل بالعلم ولهذا قال أهل النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } وقال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } .

                والعقل المشروط في التكليف لا بد أن يكون علوما يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس ولا بين أيام الأسبوع ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل . أما من فهم الكلام وميز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل .

                ثم من الناس من يقول : العقل هو علوم ضرورية ومنهم من يقول : العقل هو العمل بموجب تلك العلوم .

                والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما : أن العقل غريزة . وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء كما أن في العين قوة بها يبصر ; وفي اللسان قوة بها يذوق وفي الجلد قوة بها يلمس عند جمهور العقلاء .

                ومن الناس من ينكر القوى والطبائع كما هو قول أبي الحسن ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهؤلاء المنكرون للقوى والطبائع [ ص: 288 ] ينكرون الأسباب أيضا ويقولون : إن الله يفعل عندها لا بها فيقولون : إن الله لا يشبع بالخبز ولا يروي بالماء ولا ينبت الزرع بالماء بل يفعل عنده لا به وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنة وإجماع السلف مع مخالفة صريح العقل والحس ; فإن الله قال في كتابه : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } فأخبر أنه ينزل الماء بالسحاب ويخرج الثمر بالماء . وقال تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } وقال : { ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد } وقال : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } وقال : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وقال : { فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } ومثل هذا في القرآن كثير .

                والناس يعلمون بحسهم وعقلهم أن بعض الأشياء سبب لبعض كما يعلمون أن الشبع يحصل بالأكل لا بالعد ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى وأن الماء سبب لحياة النبات والحيوان كما قال : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وأن الحيوان يروى بشرب الماء لا بالمشي ومثل ذلك كثير ولبسط هذه المسائل موضع آخر .



                [ ص: 289 ] فصل : والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه وهي النفس التي تفارقه بالموت { قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن الصلاة : إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء } { وقال له بلال : يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك } وقال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } قال ابن عباس وأكثر المفسرين : يقبضها قبضين : قبض الموت وقبض النوم ثم في النوم يقبض التي تموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى حتى يأتي أجلها وقت الموت .

                وقد ثبت في الصحيحين { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا نام : باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين } وقد ثبت في الصحيح : { أن الشهداء جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح [ ص: 290 ] في الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش } وثبت أيضا بأسانيد صحيحة : { أن الإنسان إذا قبضت روحه فتقول الملائكة اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي راضية مرضيا عنك . ويقال اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ساخطة مسخوطا عليك } وفي الحديث الآخر : { نسمة المؤمن طائر تعلق من ثمر الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش } فسماها نسمة .

                وكذلك في الحديث الصحيح حديث المعراج : { أن آدم عليه السلام قبل يمينه أسودة وقبل شماله أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى وأن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسودة نسم بنيه : عن يمينه السعداء وعن يساره الأشقياء } وفي حديث علي : { والذي فلق الحبة وبرأ النسمة } وفي الحديث الصحيح : { إن الروح إذا قبض تبعه البصر } فقد سمى المقبوض وقت الموت ووقت النوم روحا ونفسا . وسمى المعروج به إلى السماء روحا ونفسا . لكن يسمى نفسا باعتبار تدبيره للبدن ويسمى روحا باعتبار لطفه فإن لفظ " الروح " يقتضي اللطف ولهذا تسمى الريح روحا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { الريح من روح الله } أي من الروح التي خلقها الله فإضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف إذ كل ما يضاف إلى الله إن كان عينا قائمة بنفسها فهو ملك له وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله .

                [ ص: 291 ] فالأول كقوله : { ناقة الله وسقياها } وقوله : { فأرسلنا إليها روحنا } وهو جبريل : { فتمثل لها بشرا سويا } { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } { قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } وقال : { ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } وقال عن آدم : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } والثاني كقولنا : علم الله وكلام الله وقدرة الله وحياة الله وأمر الله لكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علما والمقدور قدرة والمأمور به أمرا والمخلوق بالكلمة كلمة فيكون ذلك مخلوقا . كقوله : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } وقوله : { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة } وقوله : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } ومن هذا الباب قوله : { إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة . أنزل منها رحمة واحدة وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها عباده } ومنه قوله في الحديث الصحيح للجنة : { أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي } كما قال للنار : { أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها } .



                [ ص: 292 ] فصل : ولكن لفظ " الروح والنفس " يعبر بهما عن عدة معان : فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق وهو الذي تسميه الأطباء الروح ويسمى الروح الحيواني . فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس .

                ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه كما يقال رأيت زيدا نفسه وعينه وقد قال تعالى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } وقال : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقال تعالى : { ويحذركم الله نفسه } وفي الحديث الصحيح أنه { قال لأم المؤمنين : لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزن بما قلتيه لوزنتهن سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله مداد كلماته } وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم } .

                فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء : الله نفسه التي [ ص: 293 ] هي ذاته المتصفة بصفاته ليس المراد بها ذاتا منفكة عن الصفات ولا المراد بها صفة للذات وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات وكلا القولين خطأ .

                وقد يراد بلفظ النفس الدم الذي يكون في الحيوان كقول الفقهاء " ما له نفس سائلة وما ليس له نفس سائلة " ومنه يقال نفست المرأة إذا حاضت ونفست إذا نفسها ولدها ومنه قيل النفساء ومنه قول الشاعر :

                تسيل على حد الظباة نفوسنا وليست على غير الظباة تسيل

                فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح ويراد بالنفس عند كثير من المتأخرين صفاتها المذمومة فيقال : فلان له نفس ويقال : اترك نفسك ومنه قول أبي مرثد " رأيت رب العزة في المنام فقلت أي رب كيف الطريق إليك فقال اترك نفسك " ومعلوم أنه لا يترك ذاته وإنما يترك هواها وأفعالها المذمومة ومثل هذا كثير في الكلام يقال فلان له لسان فلان له يد طويلة فلان له قلب يراد بذلك لسان ناطق ويد عاملة صانعة وقلب حي عارف بالحق مريد له قال تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .

                كذلك النفس لما كانت حال تعلقها بالبدن يكثر عليها اتباع هواها صار [ ص: 294 ] لفظ " النفس " يعبر به عن النفس المتبعة لهواها أو عن اتباعها الهوى بخلاف لفظ " الروح " فإنها لا يعبر بها عن ذلك إذ كان لفظ " الروح " ليس هو باعتبار تدبيرها للبدن .

                ويقال النفوس ثلاثة أنواع : وهي " النفس الأمارة بالسوء " التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي .

                و " النفس اللوامة " وهي التي تذنب وتتوب فعنها خير وشر لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت فتسمى لوامة لأنها تلوم صاحبها على الذنوب ولأنها تتلوم أي تتردد بين الخير والشر .

                و " النفس المطمئنة " وهي التي تحب الخير والحسنات وتريده وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك وقد صار ذلك لها خلقا وعادة وملكة . فهذه صفات وأحوال لذات واحدة وإلا فالنفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه .

                وقد قال طائفة من المتفلسفة الأطباء : إن النفوس ثلاثة : نباتية محلها الكبد ; وحيوانية محلها القلب وناطقية محلها الدماغ . وهذا إن أرادوا به أنها ثلاث قوى تتعلق بهذه الأعضاء فهذا مسلم وإن أرادوا أنها ثلاثة أعيان قائمة بأنفسها فهذا غلط بين .



                [ ص: 295 ] فصل : وأما قول السائل : " هل لها كيفية تعلم ؟ " فهذا سؤال مجمل إن أراد أنه يعلم ما يعلم من صفاتها وأحوالها فهذا مما يعلم وإن أراد أنها هل لها مثل من جنس ما يشهده من الأجسام أو هل لها من جنس شيء من ذلك ؟ فإن أراد ذلك فليس كذلك فإنها ليست من جنس العناصر : الماء والهواء والنار والتراب ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعدن ولا من جنس الأفلاك والكواكب فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود : ولهذا يقال ; إنه لا يعلم كيفيتها ويقال إنه " من عرف نفسه عرف ربه " من جهة الاعتبار ومن جهة المقابلة ومن جهة الامتناع .

                فأما " الاعتبار " فإنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا : من العسل واللبن [ ص: 296 ] والماء والخمر والحرير والذهب والفضة لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب : لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة فقد قال ابن عباس رضي الله عنه " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء " .

                فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك ويجب لها ما يجب لها ويمتنع عليها ما يمتنع عليها وتكون مادتها مادتها وتستحيل استحالتها فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد ويأسن ولبنها لا يتغير طعمه وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله فإن ماءها ليس نابعا من تراب ولا نازلا من سحاب مثل ما في الدنيا ولبنها ليس مخلوقا من أنعام كما في الدنيا ; وأمثال ذلك ; فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم ; وبينهما قدر مشترك وتشابه ; علم به معنى ما خوطبنا به مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة فالخالق جل جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا .

                فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير ; لم يلزم أن يكون مماثلا لخلقه إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق وكل واحد من صغار الحيوان لها حياة وقوة وعمل وليست مماثلة للملائكة المخلوقين ; فكيف يماثل رب العالمين شيئا من المخلوقين .

                والله سبحانه وتعالى سمى نفسه وصفاته بأسماء وسمى بها بعض المخلوقات فسمى نفسه حيا عليما سميعا بصيرا عزيزا جبارا متكبرا [ ص: 297 ] ملكا رءوفا رحيما ; وسمى بعض عباده عليما وبعضهم حليما وبعضهم رءوفا رحيما ; وبعضهم سميعا بصيرا ; وبعضهم ملكا ; وبعضهم عزيزا ; وبعضهم جبارا متكبرا . ومعلوم أنه ليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم ولا السميع كالسميع ; وهكذا في سائر الأسماء ; قال سبحانه وتعالى : { إن الله كان عليما حكيما } وقال : { وبشروه بغلام عليم } وقال : { إنه كان حليما غفورا } وقال : { فبشرناه بغلام حليم } وقال : { إن الله بالناس لرءوف رحيم } وقال : { بالمؤمنين رءوف رحيم } وقال : { إن الله كان سميعا بصيرا } وقال تعالى : { أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } وكذلك سائر ما ذكر ; لكن الإنسان يعتبر بما عرفه ما لم يعرفه . ولولا ذلك لانسدت عليه طرق المعارف للأمور الغائبة .

                وأما من جهة " المقابلة " فيقال : من عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز وهكذا أمثال ذلك لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم وأما الرب تعالى فله صفات الكمال وهي من لوازم ذاته يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلا وأبدا ويمتنع عدمها لأنه واجب الوجود أزلا وأبدا وصفات كماله من لوازم ذاته ويمتنع ارتفاع اللازم إلا بارتفاع الملزوم فلا يعد شيء من صفات كماله إلا بعد ذاته [ ص: 298 ] وذاته يمتنع عليها العدم فيمتنع على شيء من صفات كماله العدم .

                وأما من جهة " العجز والامتناع " فإنه يقال : إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه بل هي هويته وهو لا يعرف كيفيتها ولا يحيط علما بحقيقتها فالخالق جل جلاله أولى أن لا يعلم العبد كيفيته ولا يحيط علما بحقيقته ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه صلى الله عليه وسلم { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك } وثبت في صحيح مسلم وغيره : أنه كان يقول هذا في سجوده . وقد روى الترمذي وغيره : أنه كان يقوله في قنوت الوتر " وإن كان في هذا الحديث نظر فالأول صحيح ثابت .



                فصل : وأما سؤال السائل : هل هو جوهر أو عرض ؟ فلفظ " الجوهر " فيه إجمال ومعلوم أنه لم يرد بالسؤال الجوهر في اللغة مع أنه قد قيل إن لفظ " الجوهر " ليس من لغة العرب وإنه معرب وإنما أراد السائل الجوهر في الاصطلاح من تقسيم الموجودات إلى جوهر وعرض .

                [ ص: 299 ] وهؤلاء منهم من يريد بالجوهر المتحيز فيكون الجسم المتحيز عندهم جوهرا وقد يريدون به الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ .

                والعقلاء متنازعون في إثبات هذا ; وهو أن الأجسام هل هي مركبة من الجواهر المفردة ؟ أم من المادة والصورة ؟ أم ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال ; أصحها " الثالث " أنها ليست مركبة لا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة وهذا قول كثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وغيرهم بل هو قول أكثر العقلاء كما قد بسط في موضعه .

                والقائلون بأن لفظ " الجوهر " يقال على المتحيز متنازعون : هل يمكن وجود جوهر ليس بمتحيز ؟ ثم هؤلاء منهم من يقول : كل موجود فإما جوهر وإما عرض ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجوهر ومن هؤلاء من يقول : كل موجود فإما جسم أو عرض ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجسم وقد قال بهذا وبهذا طائفة من نظار المسلمين وغيرهم ومن المتفلسفة والنصارى من يسميه جوهرا ولا يسميه جسما وحكي عن بعض نظار المسلمين أنه يسميه جسما ولا يسميه جوهرا إلا أن الجسم عنده [ ص: 300 ] هو المشار إليه أو القائم بنفسه ; والجوهر عنده هو الجوهر الفرد .

                ولفظ " العرض " في اللغة له معنى وهو ما يعرض ويزول كما قال تعالى : { يأخذون عرض هذا الأدنى } وعند أهل الاصطلاح الكلامي قد يراد بالعرض ما يقوم بغيره مطلقا وقد يراد به ما يقوم بالجسم من الصفات ويراد به في غير هذا الاصطلاح أمور أخرى .

                ومعلوم أن مذهب السلف والأئمة وعامة أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله وأن له علما وقدرة وحياة وكلاما ويسمون هذه الصفات ثم منهم من يقول : هي صفات وليست أعراضا ; لأن العرض لا يبقى زمانين وهذه باقية ومنهم من يقول بل تسمى أعراضا لأن العرض قد يبقى وقول من قال : إن كل عرض لا يبقى زمانين قول ضعيف وإذا كانت الصفات الباقية تسمى أعراضا جاز أن تسمى هذه أعراضا : ومنهم من يقول : أنا لا أطلق ذلك بناء على أن الإطلاق مستنده الشرع .

                والناس متنازعون هل يسمى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع وإن لم يرد بإطلاقه نص ولا إجماع أم لا يطلق إلا ما أطلق نص أو إجماع على قولين مشهورين .

                وعامة النظار يطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع كلفظ القديم والذات [ ص: 301 ] ونحو ذلك ومن الناس من يفصل بين الأسماء التي يدعى بها وبين ما يخبر به عنه للحاجة فهو سبحانه إنما يدعى بالأسماء الحسنى كما قال : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } وأما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال : ليس هو بقديم ولا موجود ولا ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك فقيل في تحقيق الإثبات بل هو سبحانه قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها وقيل ليس بشيء فقيل بل هو شيء فهذا سائغ وإن كان لا يدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدل على المدح كقول القائل : يا شيء إذ كان هذا لفظا يعم كل موجود وكذلك لفظ " ذات وموجود " ونحو ذلك ; إلا إذا سمى بالموجود الذي يجده من طلبه كقوله : { ووجد الله عنده } فهذا أخص من الموجود الذي يعم الخالق والمخلوق .

                إذا تبين هذا فالنفس - وهي الروح المدبرة لبدن الإنسان - هي من باب ما يقوم بنفسه التي تسمى جوهرا وعينا قائمة بنفسها ليست من باب الأعراض التي هي صفات قائمة بغيرها .

                وأما التعبير عنها بلفظ " الجوهر " " والجسم " ففيه نزاع بعضه اصطلاحي وبعضه معنوي . فمن عنى بالجوهر القائم بنفسه فهي جوهر ومن عنى بالجسم ما يشار إليه وقال إنه يشار إليها فهي عنده جسم ومن عنى بالجسم المركب [ ص: 302 ] من الجواهر المفردة أو المادة والصورة فبعض هؤلاء قال إنها جسم أيضا . ومن عنى بالجوهر المتحيز القابل للقسمة فمنهم من يقول إنها جوهر والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة وأما الإشارة إليها فإنه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسل منه كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليه الشواهد العقلية .



                فصل : وأما قول القائل أين مسكنها من الجسد ؟ فلا اختصاص للروح بشيء من الجسد بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد فإن الحياة مشروطة بالروح فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة وإذا فارقته الروح فارقته الحياة .



                [ ص: 303 ] فصل : وأما قوله : أين مسكن العقل فيه ؟ فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل وأما من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } وقيل لابن عباس : بماذا نلت العلم : قال : " بلسان سئول وقلب عقول " لكن لفظ " القلب " قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن التي جوفها علقة سوداء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد } . وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقا فإن قلب الشيء باطنه كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك ومنه سمي القليب قليبا لأنه أخرج قلبه وهو باطنه وعلى هذا فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضا ولهذا قيل : إن العقل في الدماغ . كما يقوله كثير من الأطباء ونقل ذلك عن الإمام أحمد ويقول طائفة من أصحابه : إن أصل العقل في القلب فإذا كمل انتهى إلى الدماغ .

                والتحقيق أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا وما يتصف [ ص: 304 ] من العقل به يتعلق بهذا وهذا لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ ومبدأ الإرادة في القلب .

                والعقل يراد به العلم ويراد به العمل فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة وأصل الإرادة في القلب والمريد لا يكون مريدا إلا بعد تصور المراد فلا بد أن يكون القلب متصورا فيكون منه هذا وهذا ويبتدئ ذلك من الدماغ وآثاره صاعدة إلى الدماغ فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء وكلا القولين له وجه صحيح . وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق والله أعلم .




                الخدمات العلمية