الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر

              الدكتور / زغلول راغب النجار

              تقديم

              بقلم: عمر عبيد حسنة

              الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وأنزل الحديد، فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، علم داود عليه السلام صنعه الدروع، وأمره بضرورة الإتقان في الصناعة فقال:

              ( وقدر في السرد ) [سـبأ:11]، واعتبر الحرفة للإنسان كرامة، والإتقان للعمل دينا وعبادة وشكرا،

              قال الله تعالى: ( اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ) [سـبأ:13]،

              فما من الأنبياء نبي –وهم في موضع الأسوة والقدوة من البشر- إلا كانت له حرفة.

              وصلى الله على سيدنا محمد الذي كانت حياته أنموذجا عمليا للقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، والبناء الحضاري، المرتكز على القيم الدينية الهادية، والحقائق العلمية البانية، وبعد:

              فهذا كتاب الأمة العشرون: (قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر) للدكتور زغلول راغب النجار ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر ، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، بعد أن افتقدت الكثير من فاعليتها ومنهجيتها وصوابها، وأبعاد تكليفها ومسئوليتها، وانتهت إلى صور من التدين محزنة، بعيدة عن التبصر بحركة التاريخ، وسنة التداول الحضاري، [ ص: 7 ] تعيش خارج حدود الزمان المكان، وتفتقر لأبسط مستلزمات عمارة الأرض، تحاول تعويض مركب النقص أمام التحدي الحضاري العالمي بالاحتماء بالتاريخ والتراث، والافتخار بإنجاز السلف في العلوم والفنون والآداب. وتعجز عن تمثل هـذا الميراث ونقله من ورائها إلى أمامها للتزود منه، والأهتداء به للمستقبل. فهي في الحقيقة تعاني اليوم الاغتراب من وجهين: الاغتراب الحضاري المعاصر بعجزها عن الإنجاز والمساهمة فيه، والاغتراب التاريخي أيضا لعدم قدرتها على تمثله والاهتداء به.

              ولعل من نافلة القول: التأكيد على أن الإسلام اعتبر طلب العلم فريضة، واعتمد حسن توظيفه وسيلة لبناء الحضارة المثلى، ذلك أن الإنجاز الحضاري التاريخي كان مرتبطا باستمرار بمدى استجابة المسلمين للخطاب الإلهي، وارتفاعهم إلى مستوى إسلامهم، وحاجات عصرهم، وأن عهود الركود والتخلف والتقليد كانت تلقي بظلالها على فهم المسلمين للخطاب الإسلامي، وإدراك أبعاده. وقد لا يكون مجديا كثيرا التأكيد على أن الإسلام دين العلم والمعرفة بعد أن أصبح الأمر بدهية على مستوى التصور والتطبيق التاريخي، إضافة إلى أن معضلة التخلف العلمي والتقني التي تعاني منها اليوم، لا تحل بكثرة الشكوى والنواح على الماضي، والبكاء على الأطلال، وخاصة عندما ينقلب البكاء إلى لون من ألوان التداوي والتخدير، ولا يصل بصاحبه إلى مرحلة القلق الحضاري، الذي يؤدي إلى استشعار التناقض والتحدي بين الواقع القائم والمثال المأمول ويبصر بالسبيل المحقق للهدف.

              كما أن المشكلة لن تحل أيضا بمزيد من المواقف الخطابية العاطفية، أو الحماس والتوثب الروحي فقط، وإنما لا بد من الإدراك الكامل لمشكلة التخلف، ودراسة المناخ الذي مكن لها، ومعالجة الأسباب، وما يقتضيه ذلك من الصبر والدأب والمراجعة وتصويب الخطو، وعدم الاقتصار على الإحساس بالظواهر والأعراض.

              وقد يكون صحيحا أن المنتمين للإسلام، الملتزمين بشرائعه، [ ص: 8 ] استطاعوا إلى حد بعيد كسر الحاجز النفسي، وأمكنهم التخلص من المحاصرة، والخروج من المناخ الذي أريد لهم، وضرب على عالمهم: من أن العلم والتقنية يناقض الدين والتدين، وأن سبب التخلف والرجعية والانكسار الحضاري، كامن في الإيمان بالدين، وبمقولاته الغيبية. وبإمكاننا القول هـنا: إن أعداء الإسلام استطاعوا استيراد المعارك التي دارت بين العلماء ورجال الكنيسة، أي: بين الحضارة والكنيسة في العصور الوسطى، إلى المناخ الإسلامي، في محاولة لتحقيق النصر الذي حدث هـناك، إنهم استوردوا المعركة التي لم يكن الإسلام طرفا فيها، ليستوردوا انتصارات موهومة، دون وعي بالميراث الثقافي، والشخصية الحضارية التاريخية، والإنجازات العلمية للأمة الإسلامية. ومشكلتهم الأساسية أنهم اعتمدوا الحضارة الغربية ومقولاتها مقياسا لكل دين وحضارة.

              نقول: لقد استطاع الملتزمون بالإسلام، حل تلك المعادلة التي كانت تبدو صعبة بين الدين والعلم، وأمكنهم فعلا التحقق بأدق الاختصاصات، واعتلاء أرقى المنابر العلمية، والمساهمة في الإبداع والاختراع، مع احتفاظهم بهويتهم الثقافية، وانتمائهم الإسلامي والتزامهم الشرعي، ولو حاولنا الآن القيام بإحصاءات للمتفوقين بالاختصاصات العلمية النادرة في العالم العربي والإسلامي، لوجدنا معظمهم من الملتزمين إسلاميا؛ لأن الإيمان وفر لهم طاقاتهم، وأحسن توجيهها، وضبط سلوكهم، وأكسبهم الطمأنينة وسكينة النفس، وكلها شروط مطلوبة للإنجاز العلمي، بينما نرى الآخرين يحملون الخيبة والفشل، ويحاولون استدراك نقصهم وتخلفهم، وفشلهم بالانتماء إلى أفكار وهيئات ومؤسسات تصنع الشهرة وتساهم بالوصول إلى السلطة، والأضواء التي نراها لبعض النماذج أقرب إلى صناعة الأجنبي، وهي بعيدة أصلا عن الساحة العلمية.

              يضاف إلى ذلك، أن التقدم العلمي والتقني الذي يتضاعف اليوم كل عشر سنوات تقريبا لم يسجل إصابة واحدة على الخطاب الإسلامي، [ ص: 9 ] ومعرفة الوحي بعد خمسة عشر قرنا، بينما لم يستطع النص الديني المعمول به قبل الإسلام، الصمود أمام العلمية البسيطة، وسقط عند الصدمة الأولى.

              ومع ذلك يبقى السؤال الكبير المطروح هـنا: هـل استطاع الملتزمون بالإسلام الذين أمكنهم التحقق بأدق الاختصاصات واعتلاء أرقى المنابر العلمية، توظيف واستثمار هـذا التخصص في خدمة العقيدة وصناعة الحضارة، وتحقيق كسب مقدور لأمتهم؛ أي جعل الاختصاص العلمي في خدمة العقيدة والدعوة والمبادئ الإسلامية؟ لا شك بأن الإجابة الدقيقة حول هـذا السؤال تقتضي استقصاء للعديد من العوامل الداخلية والخارجية، واستقراء للمعوقات على أكثر من صعيد أيضا، وإن كنا نعتقد أن الإصابة الذاتية الداخلية تبقى هـي الأساس، والعامل المؤثر: ( قل هـو من عند أنفسكم ) [آل عمران:165]. وعلى الرغم من أنه قد يكون للملتزمين بالإسلام بعض العذر لما هـم عليه؛ لأنهم انشغلوا بخاصة أمرهم، وحماية أنفسهم، ومواجهة العداوات والكيود لهذا الدين التي استنفدت معظم طاقاتهم، إلا أنه لا بد من القول أيضا: بأن الكثير منهم عجزوا عن امتلاك الرؤية الشاملة لوسائل وآفاق الدعوة إلى الله لسبب أو لآخر، وبذلك حاصروا أنفسهم قبل أن يحاصرهم أعداؤهم.

              إنهم لم يروا للدعوة إلى الله إلا طريقا واحدا، وموقعا واحدا، ولونا واحدا من ممارسة الخطابة والوعظ والإرشاد.. إلخ، وبذلك انفصلوا بتصورهم الخاص للدين عن الحياة بمواقعها المتعددة، ولم يدركوا أهمية مؤسساتها المختلفة، ولم يحتملوا ما تقتضيه المرابطة في الآفاق المتعددة من صبر، ومصابرة، ومجاهدة، وثمار بعيدة الأجل، فتركوا الكثير من المواقع العلمية،، ووقفوا جميعا في وجه العواصف السياسية التي تحاول اقتلاعهم، ولم يستطيعوا تماما أن يدركوا أهمية التخصص العلمي ومراكزه ومؤسساته، وضرورته، وجعله في خدمة الدعوة إلى الله، وأنه من أهم الوسائل المعاصرة للنفوذ إلى المواقع المؤثرة، والنفاذ إلى المجالات المتعددة.. وقد [ ص: 10 ] لا نأتي بجدية إذا قلنا بأن العلماء والتقنيين اليوم هـم الذين يحكمون العالم فعلا، ويقررون مصيره، وأن الذين يحتلون مراكز البحث العلمي والأكاديمي هـم صانعو القرار والموقف السياسي في نهاية المطاف، وأن القرارات السياسية لم تعد تنشأ في فراغ، وإنما هـي ثمرة لما تقدمه مراكز المعلومات، ولسنا بحاجة لإبراز دور اليهود ومدى تأثيرهم في هـذا المجال، وأن جيش العلماء من اليهود في مراكز البحث العلمي والمخابر والجامعات ومؤسسات تطوير الأسلحة، كان ولا يزال هـو المؤثر في رسم السياسات العالمية على مستوى الشرق والغرب معا.

              ومن الأمور التي لا بد أن نعرض لها في هـذا المجال، أن المسلمين اليوم بشكل عام – كثمرة للتخلف والعجز – نراهم أكثر حرصا على الفروض العينية منهم على الفروض الكفائية؛ حيث تقع قضية العلم والتقنية، بل قد تستغرقنا وتشغلنا أحيانا بعض المستحبات والمندوبات، على حساب الفروض والواجبات، وقد يستنكر بعضنا على المقصر في بعض المندوبات والمستحبات ما لا يستنكر على المتقاعس في أداء الواجبات والفروض الكفائية! وبذلك انكفأنا عن الكثير من المواقع العلمية المؤثرة، إضافة إلى انحسار ساحة الفروض الكفائية في تصورنا للفروض.

              وهذه من الإصابات التي لحقت بالشخصية المسلمة، والتي لا بد من علاجها؛ ذلك أن التخلص العلمي والتقني في التصور الإسلامي، ليس شرطا للنهوض، وبناء المستقبل، وتحقيق الاستقلال، والتخلص من التبعية والتحكم الأجنبي فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى البعد الديني، والمسلك الأخلاقي الذي يترتب على فعله الثواب، وعلى تركه العقاب والتأثم، إنه من الفروض الكفائية. ومن المعلوم أن فرض الكفاية واجب اجتماعي تكافلي مسئوليته ذات بعدين: بعد فردي، بحيث يصبح فرض عين على من باشره وتوجه إليه إذا تعين قيامه بهذا الفرض لكفاية الأمة؛ وبعد اجتماعي؛ لأن أداءه منوط بأفراد المجتمع جميعهم، ثوابا في حالة الكفاية، وعقابا في حالة العجز والعطالة. [ ص: 11 ]

              وقد عرف علماؤنا فرض الكفاية بأنه: الأمر الذي إذا قام به بعض المسلمين، سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركوه أثموا جميعا. وكلمة (قام به) فسرت في عصر التخلف العلمي بمجرد مباشرته، سواء تحققت الكفاية أم لا، حتى لم ير الكثير من مسلمي التخلف اليوم مثالا لفرض الكفاية إلا صلاة الجنازة، ولعل ذلك لأننا في حالة موت وتخلف كما يقول الشيخ الغزالي ، أما العلوم والفنون والصناعات والزراعات وما إلى ذلك فهي خارج دائرة اهتمامنا، إننا نحسن استيرادها واستهلاكها.

              والحقيقة أن الذي نفهمه من معنى "إذا قام به"، أي: إذا أداه على الوجه الأكمل، فلا تبرأ الأمة المسلمة من الإثم ما لم يكن فيها من المتخصصين والعلماء والتقنيين بقدر كفايتها، هـذا إذا لم نقل بمسئوليتها تجاه الإنسانية عامة التي تقتضيها القيادة والشهادة.

              ومن الإصابات البالغة التي لحقت بالشخصية المسلمة اليوم أن الكثير ممن اختاروا الطريق العلمي أو التقني كفاية لأمتهم، وتحقيقا لأداء ما تقتضيه أمانة الاستخلاف والاستعمار في الأرض، ونتيجة لمناخ التخلف والفهم الديني المحزن، والعجز، بدأ يشعر بعقدة الذنب تجاه دينه وإسلامه، لاعتقاده بأن طريق العلم والتقنية، مناقض لطريق الدعوة والعمل إلى الله، فما عليه إذن إلا أن ينسحب من الساحة، ويتوقف عن المتابعة في جامعته ومعهده، ومخبره، ليتحول إلى واعظ ومرشد، ومفسر وفقيه، يدخل نفسه في أمور كثيرة قد يقتضيها الاختصاص الدقيق واستحضار الأدوات الضرورية اللازمة للفهم وهو لم يتحقق بها، وبذلك يزيد المسلمين تخلفا على تخلفهم، واضطرابا وبعثرة وتمزقا، ويدع مكانه واختصاصه معطلا، ظنا منه بأن عمله لا يقع ضمن التكاليف الشرعية. والأدهى من ذلك كله، ظن بعض المسلمين أن وجودهم في موقع الاستهلاك ووجود أعدائهم في موقع الإنتاج والتصنيع من نعم الله عليهم (!!) لأن الله سخر لهم الأعداء لخدمتهم، إنها معطيات التخلف والانحطاط والتدين المغشوش المغاير للمسيرة الحضارية الإسلامية وسائر إنجازاتها. [ ص: 12 ]

              يضاف إلى ذلك أن بعضنا قد لا يرى من الحضارة المعاصرة – التي جاءت ثمرة لتقدم العلم والتكنولوجيا – إلا عيوبها. وتكبر هـذه السلبيات في عينه وتكبر، حتى تصل به إلى ضرب من الحلم والوهم (حلم اليقظة) ، بأنه هـذه الحضارة سوف تئول إلى السقوط والانهيار لمصلحته، وما عليه إلا أن يمارس حالة الانتظار، ويعفي نفسه من أي دور ومسئولية، أو تحقيق أية خصائص تؤهله للتبادل الحضاري. فالحضارة علم وتقنية، فكر وفعل ومعارف إنسانية متبادلة، وتراكمات علمية مستمرة، وخصائص وصفات نفسية تؤهل للقيام بالدور المطلوب، أما الرؤية النصفية التي تقتصر على الولع بتتبع العيوب، وتكبيرها، والاقتصار على ذلك وانتظار سقوطها لمصلحتنا، فهو لون من خداع النفس، وتكريس واستمرار لواقع العطالة. ولا يفوتنا أن نذكر بأن بعض علماء الحضارة أكثر إحساسا بسلبياتها منا، وهاجسهم الدائم البحث عن سبيل العلاج.

              وعلى الجانب الآخر ومن خلال العجز نفسه الذي يورثه مناخ التخلف، لا يرى بعض المسلمين اليوم من الحضارة المعاصرة إلا إنجازها وإبداعها، وتقدمها على مختلف الأصعدة، إلى درجة يصاب معها بضرب من العمى العلمي عن أزمة إنسان هـذه الحضارة، وإصاباته المتعددة، والسلبيات الكثيرة التي ترافقت مع هـذا التقدم العلمي. فيعيش حالة العجز الكامل، ويسيطر عليه ذهان الاستحالة فيفتقد بذلك أية قدرة على الإنجاز أو الأمل بالإنجاز مستقبلا. والمحصلة سوف تكون واحدة في نهاية الأمر، بين من لا يرى إلا العيوب، فينظر السقوط لمصلحته، وبين من لا يرى إلا الإنجاز والإبداع، فينبهر بتقدم الآخرين ويلغي نفسه تماما. عدا عن كثيرا من المسلمين اليوم، يظنون أن مشكلة التقدم العلمي والتقني، يمكن أن تحل بمزيد من الحماس والإخلاص والتوثب الروحي فقط، بعيدا عن فقه آيات القرآن، وهدي النبوة، وسيرة السلف العملية: كيف تعاملوا مع الأسباب، وأدركوا علل الأشياء، وسنن التغيير، وقوانين التسخير. [ ص: 13 ]

              أما البكاؤون، الذين يبكون على الأطلال، وينسحبون من الساحة، ويستغرقهم الحديث عن إنجازات السلف، والافتخار بها، فإنهم يساهمون بشكل سلبي – وربما عن حسن نية – بالإحباط والانكسار النفسي، وتكريس الهزيمة التكنولوجية أمام التحدي القائم.

              وقد يكون الوجه الآخر للقضية، وكلون من التعويض عن مواجهة الواقع، والعجز عن الإبداع، والاحتماء بميراث الماضي، والوقوف عند حدوده، دون القدرة على تجاوز الماضي إلى الحاضر، وتعدية الرؤية الحضارية، ما نراه اليوم من التوسع فيما اصطلح على تسميته: الإعجاز العلمي للقرآن، على الرغم من بعض التحفظات على هـذه التسمية لدى الكثير من علماء المسلمين، الذين يرون أن ميدان الإعجاز في القرآن ليس في المجال العلمي أصلا، فالعلم في تقدم، وتطور مستمر. وقد بلغ اليوم شأوا واسعا، وكلما تقدمت الأيام تتبلور الحقيقة العلمية أكثر.

              وخلود الرسالة الإسلامية يعني فيما يعنيه، خلود المعجزة، وعدم قدرة الإنسان على الإتيان بمثلها، وأظن أن تطبيق ذلك في ميدان الإعجاز العلمي سيؤدي إلى الكثير من المفارقات والتمحلات. والقرآن كتاب هـداية أولا وقبل كل شيء، وليس كتاب علم وتكنولوجيا. ولا أحد يستطيع أن ينكر أن القرآن عرض لبعض الحقائق العلمية، ولفت نظر الإنسان إليها، ليحقق هـدفه في الهداية، ويفتح طريق البحث العلمي أمام المسلمين، وأن هـذه الحقائق لم تكن معلومة في عصر نزول القرآن، وأن العلم أثبتها بعد آماد وآماد.

              وقد يؤكد العلم كل يوم ما يكسبنا الاطمئنان إلى صحة النص القرآني، ولا شك أن الحقائق العلمية التي عرض لها القرآن في عصر الأمية العلمية تعتبر من دلائل النبوة وبرهان صدقها، أما تسميتها إعجازا فأظن أن القضية ليست بهذه السهولة والبساطة. ومن طبيعة العلم التطور، وكلما تطور حقق إنجازات وحقائق أكثر بكثير من الماضي كله.

              ومن الحقائق التي لا مجال للتشكيك فيها، أن القرآن وضع العقل البشري [ ص: 14 ] في المناخ العلمي، ووفر له الإسلام الشروط والظروف المطلوبة لتحقيق ذلك؛ فموضوع القرآن: بناء الإنسان، ووظيفة الإنسان، القيام بأعباء الاستخلاف والإعمار عن طريق العمل وفقه قوانين التسخير. ولذلك طلب القرآن النظر، والملاحظة، والاختبار، وإدراك علل الأشياء، وأسبابها، ليبدع الإنسان ويبتكر، وينجز، وعرض لبعض الحقائق العلمية لتحقيق غرضه في الهداية، كما أسلفنا، وصمد النص القرآني خلال خمسة عشر قرنا أمام الحقائق العلمية. لكن أخشى ما نخشاه أن يستغني بعض المسلمين اليوم عن محاولة الإبداع والإنجاز العلمي والتقني، واستنفار المسلمين لذلك، للخلاص من السيطرة والتحكم، بالكلام عن إعجاز القرآن العلمي، كلون من التعويض؛ لذلك نرى بعضهم اليوم كلما اكتشفت نظرية أو حقيقة علمية، يجهدون أنفسهم عن حسن نية، في التدلي على أن القرآن عرض لها، أو أثبتها قبل العلم. وأقل ما يقال في ذلك: إنه جهد في غير موقعه، أو هـو دليل إدانة على تخلف المسلمين، وعدم فقههم للقرآن، وانتفاعهم بما عرض له من الحقائق، ومتابعة المسيرة العلمية. ويكفينا في ذلك أن الإسلام رسم سياسة العلم والتقنية وضبط المسيرة العلمية بقيمة الهادية، وحدد هـدف العلم وبين حكمته ولفت نظر الإنسان إلى علل الأشياء وأسبابها، ودعاه إلى ملاحظة الاطراد في القوانين الاجتماعية والحضارية والمادية.

              من هـنا نقول بأن المناخ العلمي والعقلي الذي وفره القرآن للإنسان، دفعه إلى البحث والكشف، والإبداع في المجالات كلها، ولم نلمح في تاريخنا الحضاري الطويل، تقدما في العلوم الشرعية والإنسانية، وتخلفا في علوم الكون، وإنما كان العقل الإسلامي مبدعا في المجالين معا. كما أن إصابات التخلف وانطفاء الفاعلية، جاءت في المجالين معا. فقياس محيط الأرض والتقدم بعلم الرياضة والطب والكيمياء، ترافق مع النبوغ في الاجتهاد، والقدرة على مواجهة المشكلات، ومتغيرات العصر والتقليد والركود في العلوم الشرعية، ترافق مع تخلف وقعود في العلوم الكونية [ ص: 15 ] أيضا.

              كما أن أمرا آخر يرد في هـذا المجال، وهو الدعوة إلى أسلمة المعرفة، فعلى الرغم من أهميته وضرورته وفائدته وحاجة الحضارة المعاصرة له بعد أن فقد الهدف والحكمة، إلا أنه من وجه آخر قد يكون مشابها للكلام والاهتمام بالإعجاز العلمي للقرآن، والاستغناء به عن الإنجاز العلمي الإسلامي، فالمعرفة العلمية كما هـو معروف ثمرة لرؤية إسلامية للعالم والمخترع، تقتضي توجيها للعلم المنتج، وتوظيفا له ليحقق حكمة وهدفا.

              لذلك نرى أن الاقتصار على النظر في النواتج العلمية للآخرين، والتفكير بتحويلها إلى المسار الصحيح يبقى قليل الجدوى، وإن كان عملا طيبا في بعض جوانبه، لكن العمل المجدي أكثر: أن يبنى العالم المسلم الذي يقدم معرفة إسلامية ابتداء، ويتحكم في مسارها وهدفها، لتكون سببا في إسعاد البشرية.

              أي أن المطلوب أسلمة العلماء، فهو المقدمة لإسلامية المعارف؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن نتمكن من التحكم بتوجيه نتائج العلم تحت شعار أسلمة العلوم، إلى الوجهة التي يريدها الإسلام، ونحن لا نمتلك المقدمات والوسائل التي أوجدت تلك النتائج. إن الذين يمتلكون المقدمات، غالبا هـم المتحكمون بالأهداف. فإسلامية العلوم تبدأ من امتلاك المقدمات والوسائل، ومن ثم تحويلها لتكون في خدمة الإنسانية.

              صحيح أن العلم اليوم، أتقن الوسائل والمقدمات، وافتقد الهدف والحكمة؛ بل نستطيع القول بأن الوسيلة انقلبت هـدفا تحت عناوين وشعارات مضللة مثل فرية العلم للعلم، والفن للفن، وصار الأمر إلى هـذا التمرد العلمي الذي أصاب الإنسان نفسه وصنع أزمته. فإنسان الحضارة اليوم بأشد الحاجة لعملية الإنقاذ.

              وقد تكون مفيدا – ونحن نعرض للقضية العلمية والتقنية – أن نحدد بعض المفهومات الضرورية لمستقبل الرؤية الحضارية ولنستبين بعض [ ص: 16 ] المعالم. وهي أن علماء الحضارة يرون: أن هـناك فرقا بين كل من مفهوم الحضارة، والثقافة، والمدنية.

              فإذا كانت المدنية تعني: الإبداع، والارتقاء بالوسائل المادية التي تحقق للإنسان الرفاه في مجال الصناعة، والعمران، والمواصلات والزراعات...إلخ – أي أن موضوعها وسائل الإنسان (عالم الأشياء) والإبداع في مجال الماديات، وأن الثقافة تعني: الارتقاء بخصائص وصفات ومزايا الإنسان، وحسن تأهيله وتربيته، واكتسابه مجموعة معارف تساهم بتشكيل شخصيته، وتكوين نظرته السوية إلى الكون والحياة، وتحديد هـدفه وتكوين نسيجه العام، أي أن موضوعها الإنسان نفسه (عالم الأفكار) والإبداع في مجال المعنويات.

              فإن الحضارة تعني: المدنية والثقافة معا. فإذا اقتصر التقدم العلمي على وسائل الإنسان وأشيائه المادية فقط، فلا يخرج عن كونه تقدما مدنيا، ولا يمكن تسميته حضارة، وهذا هـو الحاصل اليوم في التقدم العلمي للمدنية الحديثة؛ حيث تتقدم أشياء الإنسان على حساب الإنسان ذاته؛ لأن هـذا التقدم أهمل إنسانية الإنسان، وتنمية خصائصه وصفاته، وتكوين ذوقه العام وتطهير وجدانه، والارتقاء بنظرته للحياة والأحياء. إنه أخرج الإنسان بخصائصه وصفاته وأشواقه من دائرة اهتمامه، وما أهداف زيادة الإنتاج التي دفعت إلى نظريات تقسيم العلم والاصطفاء المسلكي وهندسة الأداء وحذف الحركات غير المجدية في عملية الإنتاج، إلا لون من إلغاء إنسانية الإنسان وتحويله إلى آلة صماء ينظر إليها من خلال ما تقدمه من إنتاج حتى أصبح الإنسان بعد ساعات العمل يعاني من اهتزاز في أطراف جسمه ويقوم بحركات عشوائية مماثلة لما يمارسه في العمل. إنه افتقد السيطرة والتحكم في حركته كإنسان.

              ومن الغباء الشديد عدم الاعتراف ورؤية التقدم المادي للعلم والتقنية اليوم، كما أنه من الغباء أيضا عدم رؤية الإصابات التي لحقت بهذا التقدم؛ لأنه اقتصر على وسائل الإنسان وخسر الإنسان نفسه، كما [ ص: 17 ] أسلفنا.

              ولن نتكلم عن الأسباب الكثيرة التي سببت تخلف العالم الإسلامي العلمي والتقني؛ لأن الكتاب الذي نعرض له تكفل بذلك إلى حد بعيد، لكن السؤال المطروح: هـل يستطيع المسلمون اليوم – وهم على مشارف القرن الحادي والعشرين – أن يقدموا إسهامات تنقذ حضارة الأزمة أو تعالج أزمة الحضارة؟

              لا شك أن ما يمتلكه المسلمون من رصيد ثقافي، وتاريخ حضاري، موقع جغرافي، وتجانس بشري، ومواد أولية، وخامات وطاقات مختلفة، ورسالة سماوية إنسانية، وخطاب عالمي، يؤهلهم أن يقدموا شيئا مهما للحضارة المنقوصة بشكل عام، ولو من الناحية الفكرية على الأقل، بعد أن أصبح العالم دولة واحدة وتيسرت وسائل الاتصال. كما أن بإمكانهم النهوض العلمي والتقني على المستوى المادي العلمي.

              إضافة إلى ذلك، فإن العقل المسلم اليوم والمهارات والسواعد الإسلامية تشكل مساحة كبيرة في آلية التقدم العلمي والتقني في الغرب، وأن مجموعة الأدمغة المهاجرة من العالم الإسلامي لسبب – أو لآخر – لو أتيحت لها الظروف والشروط والمؤسسات المناسبة، لاستطاعت أن تختصر مسافة التخلف، وتردم فجوته، بل وتستطيع أن تقدم شيئا آخر لا يزال مفقودا على مستوى الحضارة البشرية.

              إن هـجرة الكفاءات من البلاد العربية فقط، تكلف الأمة ما يزيد على مائة مليون دولار سنويا من رأسمالها، عدا الخسارة الدائمة من عائد هـذا الاستثمار، والتخلف الذي يورثه على مختلف الأصعدة.

              إن 50% من الأطباء المهاجرين إلى أمريكا، وعددهم (2400طبيب) ، و23% من المهندسين، و15% من الفيزيائيين، هـم من العرب، عدا إخوانهم في العالم الإسلامي، وغيرهم كثير في مختلف التخصصات. ولسنا بصدد الكلام عن عوامل الطرد من هـنا، والجذب من هـناك، وإنما لنعطي مؤشرا ولو بسيطا على أن التقدم العلمي هـناك يمتص الخبرات والعقول كلها [ ص: 18 ] ليبقى العالم الإسلامي متخلفا، ويبقى العالم الغربي متحكما.

              ولنا أن نتصور عندما يتحول المخزون العقلي لأمة من الأمم إلى ميادين الإنتاج في أمة أخرى، فالعقل المتفوق والساعد والمال والمواد الأولية للعالم الإسلامي تصب في الحضارة الغربية، فكيف يمكن النهوض والتقدم، والحالة هـذه؟

              وفوق هـذا وذاك، فإن باب الإبداع والإنتاج مسدود تقريبا أمام النخبة في العالم الإسلامي. وهناك آلاف القصص عن أطباء بلغوا أوجا في التحصيل العلمي، لكنهم لم يستطيعوا الاستمرار في وطنهم، لهذا السبب أو ذلك، وقس على ذلك المهندسين والتقنيين والموهوبين؛ فهؤلاء غالبا ما يتحولون إلى موظفين جالسين وراء المكاتب يوقعون الأوراق، أو يلقون المحاضرات النظرية، أو لا يفعلون شيئا أحيانا، أو يوضعون في أعمال تلغي عقولهم واختصاصاتهم، وتسقط من حياتهم سنوات الإبداع والخبرة.

              يضاف إلى ذلك أن هـامش الحرية في العالم الإسلامي ليس من السعة؛ بحيث يستوعب المستوى العقلي، والإبداعي، على الرغم من أن العقل العلمي ليس سياسيا دائما بالضرورة. فالعقل العلمي مشغول بإبداعه واختراعه، ولا يتطلب أكثر من مناخ مقبول من حرية الفكر، والحوار، والمناقشة، وتبادل الرأي للقيام بالتجارب والدراسة، وهذا مع الأسف، مفقود في كثير من بلدان العالم الإسلامي، بسبب من تحكم الدول المتقدمة التي تفرض هـذا المناخ من الاستبداد السياسي على عالم المسلمين ليصب رصيده من النوابغ والعقول في نهاية المطاف في مصلحتها.

              لذلك فأولى الخطوات في هـذا الأمر حل المعادلة الصعبة بين العلم والحكم، أو بين الثقافة والسياسة في العالم الإسلامي، وإلا تبقى الجهود مبعثرة، والاغتراب واقع، سواء كان الاغتراب عن الوطن، أو الاغتراب في الوطن، ولا أمل في النهوض..

              وبعد:

              فالكتاب الذي نقدمه اليوم في إطار السلسلة، مما نعتز به، ونعتبره ثمرة [ ص: 19 ] للنظرة الشمولية، والرؤية الحضارية التي نسعى لتحقيقها في عالم المسلمين. بل لعل موضوع التخلف من الهموم الأساسية التي يعاني منها العالم الإسلامي، والتي تقتضي الكثير من النظر والتدبر والمساهمة من الجميع. ونعتقد أن الأخ الدكتور زغلول النجار ، هـو من أفضل من يقدم مثل هـذه الدراسة؛ لأنه جمع بين التخصص العلمي الدقيق والرؤية الإسلامية الثقافية.

              ومما لا شك فيه أن ما كشف عنه الكتاب من الآفاق للتقدم العلمي والتقني الذي بلغته دول الشمال بشكل عام يشكل تحديا كبيرا لعالم المسلمين، ويضع المسلمين – حكاما وشعوبا – أمام مسئولياتهم؛ لأنهم بواقعهم الحالي لا يزالون يعيشون خارج نطاق الزمان والمكان. والله نسأل أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا السداد.

              الدوحة: 15 محرم 1409هـ. [ ص: 20 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية