الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : قوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } : قد بينا أن التحريم ليس بصفة للأعيان ، وإنما يتعلق بأفعال ; فمعنى قوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } إن كان الصيد الفعل فمعناه مع الاصطياد كله على أنواعه ، وإن كان معنى الصيد المصيد على معنى تسمية المفعول بالفعل ، فيكون معناه : حرم عليكم صيد البر ، وهذا من غريب المتعلقات للتكليف بالأفعال ، وتفسير وجه التعلق ; فصار الصيد في البر في حق المحرم ممتنعا بكل وجه ، وكانت إضافته إليه كإضافة الخمر إلى المكلفين والميتة ; إذ إن التحريم لا يختلف باختلاف المحرمات .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى الأئمة عن " أبي قتادة أنه قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم إذ أبصرت أصحابي يتراءون ، فنظرت فإذا حمار وحش ، فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، ثم ركبت ، فسقط سوطي ، فقلت [ ص: 200 ] لأصحابي وكانوا محرمين : ناولوني السوط . فقالوا : والله لا نعينك عليه بشيء ، فنزلت فتناولته ، ثم ركبت فأدركته من خلفه ، وهو وراء أكمة ، فطعنته برمحي ، فعقرته ، فأتيت به أصحابي ، فقال بعضهم : كلوه . وقال بعضهم : لا نأكله . وكان النبي صلى الله عليه وسلم معنا ، فحركت دابتي فأدركته ، فقال : هو حلال ، فكلوه } .

                                                                                                                                                                                                              وفي بعض الروايات : { هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا . هل معكم من لحمه شيء ؟ قالوا : معنا رجله . قال : فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها } .

                                                                                                                                                                                                              وروى الأئمة عن " الصعب بن جثامة الليثي أنه { أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه . قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه من الكراهة قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم } .

                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي والنسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم } . قال أبو عيسى : هو أحسن حديث في الباب

                                                                                                                                                                                                              . [ ص: 201 ] وروي عن علي أنه كان عند عثمان فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال ، فأكل عثمان ، وأبى علي أن يأكل ، فقال : والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا . فقال علي : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما .

                                                                                                                                                                                                              وفي بعض الروايات : إنما صيد قبل أن نحرم ; فقال علي : ونحن قد بدأنا وأهللنا ونحن حلال ، أفيحل لنا اليوم ؟ وعن ابن عباس أنه كره لحم الصيد وهو محرم ، أخذ له أو لم يؤخذ ، وإن صاده الحلال .

                                                                                                                                                                                                              وعن أبي هريرة مثله . وعن سعيد بن جبير وطاوس مثله .

                                                                                                                                                                                                              وهذا ينبني على أن المحرم الفعل بقوله صيد البر ، أو المحرم مضمر ; والمراد بالصيد المصيد ، والذي ثبت على الدليل أن حكم التحريم إنما تعلق بالمصيد لا بالصيد ; فيكون التحريم يتعلق بتناول الحيلة في تحصيله أو بقصد تناول الحيلة في تحصيله له ، بين ذلك حديثه صلى الله عليه وسلم : { صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم } ; فإذا لم يتناول المحرم صيده بنفسه ولا قصد به حل له أكله ، ولا يحل له أخذه ولا ملكه ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم رده على الصعب بن جثامة لأنه كان حيا } ، والمحرم لا يملك الصيد .

                                                                                                                                                                                                              وقيل : إنما رده لأنه صيد له ، ويكون بذلك داخلا في الحديث المذكور .

                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : إذا لم يعن فيه بدلالة ولا سلاح جاز له أكله ، وإن كان صيد من أجله .

                                                                                                                                                                                                              والحديث المتقدم يرد عليه ، وهو قوله : { ما لم تصيدوه أو يصد لكم } .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية