الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 249 ] - 17 - إعجاز القرآن

هذا الكون الفسيح الذي يعج بمخلوقات الله تضاءلت جباله الشامخة ، وبحاره الزاخرة ، ومهاده الواسعة ، أمام مخلوق ضعيف هو الإنسان ، ذلك لما جمع الله فيه من خصائص ، وما منحه من قوة التفكير التي تشع في الأرجاء لتسخر عناصر القوى الكونية ، وتجعلها في خدمة الإنسانية . وما كان الله ليذر هذا الإنسان دون أن يمده بقبس من الوحي بين فترة وأخرى يقوده إلى معالم الهدى ليسلك دروب الحياة على بينة وبصيرة ، إلا أن غلواءه الفطري يأبى عليه الخضوع لقرينه من بني الإنسان ما لم يأت له بما لا يستطيع حتى يعترف ويخضع ويؤمن بقدرة عليا فوق قدرته ، فكان رسل الله الذين يتنزل عليهم الوحي ويؤيدهم الله بخوارق العادات التي تقيم الحجة على الناس فيعترفون أمامها بالعجز ، ويدينون لها بالولاء والطاعة ، ولكن العقل البشري كان في أطوار نموه الأولى لا يرى شيئا يأخذ بلبه أقوى من المعجزات الكونية الحسية حيث لا يرقى عقله إلى السمو في المعرفة والتفكير ، فناسب هذا أن يبعث كل رسول إلى قومه خاصة ، وأن تكون معجزته فيما نبغ فيه قومه خارقة لما ألفوه ليتحقق بعجزهم عنها إيمانهم بأنها من قوى السماء ، فلما اكتمل العقل البشري أذن الله بفجر الرسالة المحمدية الخالدة إلى الناس كافة ، وكانت معجزتها معجزة العقل البشري في أرقى تطورات نضجه ونموه ، فحيث كان تأييد الله لرسله السابقين بآيات كونية تبهر الأبصار ولا سبيل للعقل في معارضتها . كمعجزة اليد والعصا لموسى ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى ، كانت معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر مشرف على العلم معجزة عقلية تحاج العقل البشري وتتحداه إلى الأبد ، وهي معجزة القرآن بعلومه ومعارفه ، وأخباره الماضية والمستقبلة ، فالعقل الإنساني على تقدمه لا يعجز عن معارضته لأنه آية كونية لا قبل له بها . ولكن عجزه لقصوره الذاتي . فيكون هذا اعترافا منه بأنه وحي الله إلى رسوله ، وأن حاجته إلى الاهتداء [ ص: 250 ] به ماسة ليستقيم عوجه ، وترقى مواهبه . وهذا المعنى ، هو ما يشير إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله : " ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا “ .

وهكذا كتب الله لمعجزة الإسلام الخلود ، فضعفت القدرة الإنسانية مع تراخي الزمن وتقدم العلم عن معارضتها .

والحديث عن إعجاز القرآن ضرب من الإعجاز لا يصل الباحث فيه إلى سر جانب منه حتى يجد وراءه جوانب أخرى يكشف عن سر إعجازها الزمن . فهو كما يقول الرافعي : " ما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة ، وتعاوروه من كل ناحية ، وأخلقوا جوانبه بحثا وتفتيشا ، ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقا جديدا ، ومراما بعيدا " .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية