الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 5 ] قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية - قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله . صلى الله عليه وآله وسلم . أما بعد : فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب - التي قد تسمى " المقامات والأحوال " - وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين ; مثل [ ص: 6 ] محبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين له والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له وما يتبع ذلك . اقتضى ذلك بعض من أوجب الله حقه من أهل الإيمان واستكتبها وكل منا عجلان . فأقول : هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق - المأمورين في الأصل - باتفاق أئمة الدين والناس فيها على " ثلاث درجات " كما هم في أعمال الأبدان على " ثلاث درجات " : ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات .

                فالظالم لنفسه : العاصي بترك مأمور أو فعل محظور . والمقتصد : المؤدي الواجبات والتارك المحرمات . والسابق بالخيرات : المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب والتارك للمحرم والمكروه . وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه : إما بتوبة - والله يحب التوابين ويحب المتطهرين - وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلك . وكل من الصنفين المقتصدين والسابقين من أولياء الله الذين ذكرهم في كتابه بقوله : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { الذين آمنوا وكانوا يتقون } فحد أولياء الله : هم المؤمنون المتقون ولكن ذلك ينقسم : إلى " عام " وهم المقتصدون [ ص: 7 ] و " خاص " وهم السابقون وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين .

                وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم " القسمين " في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : { يقول الله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ; ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه . وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } .

                وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان : فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن أن يثاب ويعاقب وهذا قول جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون : إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان .

                [ ص: 8 ] وأما القائلون بالتخليد : كالخوارج والمعتزلة القائلين إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة وإنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعده ; فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب ; وحسنات وسيئات . بل من أثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب . ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه وقد بسطناه في مواضعه . وينبني على هذا أمور كثيرة ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلا بد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه وإن كان له ذنوب

                كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - { أن رجلا كان يسمى حمارا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم . وكان يشرب الخمر ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم . فأتي به مرة فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله } .

                فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبا لله ورسوله وحب الله ورسوله أوثق عرى الإيمان كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطا عليه عند الله ورسوله من ذلك الوجه كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن { النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الخوارج فقال : يحقر [ ص: 9 ] أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم ; فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } . وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم .

                وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } . ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها . ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها : أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه . أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله .

                فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب . ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل [ ص: 10 ] البدع والضلال وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } وقال تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما } { ولهديناهم صراطا مستقيما } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم } وقال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } وقال تعالى . { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } .

                وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة . وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعا لهواه فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح كما قال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين } .

                وقال تعالى : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } وقال تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } وهذا استفهام نفي وإنكار : أي وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون وإنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ ( إنها بالكسر تكون [ ص: 11 ] جزما بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ; ولهذا قال من قال من السلف كسعيد بن جبير : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها .

                وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا . وإياكم والكذب ; فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا } فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر . وأن الكذب يستلزم الفجور .

                وقد قال تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } { وإن الفجار لفي جحيم } ولهذا كان بعض المشايخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب أن لا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق . ولهذا كان يكثر في كلام مشايخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولوا : قل لمن لا يصدق : لا يتبعني . ويقولون : الصدق سيف الله في الأرض وما وضع على شيء إلا قطعه ويقول يوسف بن أسباط وغيره : ما صدق الله عبد إلا صنع له وأمثال هذا كثير .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية