الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال الله تعالى في سورة النساء بعد الآية التي أمر فيها بقواعد الشريعة واعبدوا الله ولا تشركوا به : إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله [النساء :36 - 37] ، وقال في سورة الحديد : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إلى قوله : والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل [الحديد :21 - 24] . ففي كلا الموضعين وصف المختال الفخور بأنه يبخل ويأمر الناس بالبخل ، وهذا -والله أعلم- يوافق ما رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من الخيلاء ما يحبها الله ، ومن الخيلاء ما يبغضها الله ، فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل نفسه في الحرب ، واختياله نفسه عند الصدقة -أو كما قال- ، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالخيلاء في البغي والفخر » . [ ص: 65 ]

فإنه أخبر أن من الخيلاء ما يحبها الله ، وهي الخيلاء في السماحة والشجاعة ، ولذلك قال لأبي دجانة يوم أحد لما اختال بين الصفين ، فقال : «إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن » . ولهذا جوزنا في أحد القولين ما رويناه عن عمر من لبس الحرير في الحرب ، لأن الخيلاء التي فيه محبوبة في الحرب ، كما دل عليه الحديثان . وذلك -والله أعلم- لأن الاختيال من التخيل ، والتخيل من باب التصور الذي قد يكون تصورا للموجود ، وقد يكون تصورا للمقصود ، فإن كان مطابقا للموجود ومحمودا في القصد فهو تخيل حق نافع ، وإن كان مخالفا للموجود ومذموما في القصد فهو الباطل الضار . والشجاعة والسماحة لا بد فيها من قوة للنفس لا تتم إلا بتصور محبوب يحضه على الشجاعة والسماحة ، وإلا ففي هذا بذل النفس وفي هذا بذل المال الذي هو مادة النفس ، فإن لم تتصور النفس أمرا محبوبا يعتاض به عما يبذله من النفس والمال لم يأت بالشجاعة والسماحة . فيحب الله تخيل المقاصد الرفيعة والمطالب العالية التي تحض على الشجاعة والسماحة ، فإن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ، ويحب معالي الأمور . [ ص: 66 ]

فهذا إذا كان تخيل مقصود ، وأما إذا كان تخيل موجود فلأن الشجاعة التي مضمونها النصرة ودفع الباطل والضرر ، والسماحة التي مضمونها الرزق وإقامة الحق والنفع ، هما عظيمان في أنفسهما ، وإليهما ترجع صفات الكمال من جلب المنفعة ودفع المضرة ، فإذا كان تخيل الفاعل نفسه عظيما عند صدور ذلك منه كان مطابقا ، فكان اعتقادا صحيحا نافعا ، ولهذا لم يذكر أن الله يحبه إلا في الحرب والصدقة ، لأنه في هذا الموطن هو صحيح نافع ، لأنه يحض على المحبوب ، وما أعان على المحبوب محبوب ، فأما بعد صدور ذلك منه فإنه فخر أو من ، والله لا يحب الفخور ولا المنان . وصار في هذه المنزلة بمنزلة شهوة الطعام عند الأكل ، وشهوة النكاح عند مباضعة الرجل أهله ، فإن ذلك نافع ، به تحصل المصلحة ، بخلاف الشهوة في حال الزنا وأكل مال الغير .

فلما قال سبحانه : والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل [الحديد :23 - 24] ، والبخل منع النافع ، قيد هذا بهذا .

وقد كتبت فيما قبل هذا من التعاليق الكلام في التواضع والإحسان والكلام في التكبر والبخل . [ ص: 67 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية