الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
612 [ ص: 123 ] حديث رابع وعشرون لعبد الله بن دينار ، عن سليمان بن يسار

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن سليمان بن يسار ، وعن عراك بن مالك ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة .

التالي السابق


هكذا هذا الحديث في الموطأ عند جماعة الرواة ، ورواه حبيب كاتب مالك ، عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، فأخطأ ، وكان كثير الخطأ ، وقد نسب إلى الكذب لكثرة غرائبه وخطئه عن مالك ، وهذا الحديث أيضا أخطأ فيه يحيى بن يحيى كخطئه في الحديث الذي قبله سواء ، وأدخل بين سليمان وعراك بن مالك واوا ، فجعل الحديث لعبد [ ص: 124 ] الله بن دينار وعراك ، وهو مشكل ، وهذان الموضعان مما عد عليه من غلطه في الموطأ ، والحديث محفوظ في الموطآت كلها وغيرها لسليمان بن يسار ، عن عراك بن مالك ، وهما تابعان نظيران ، وعراك أسن من سليمان ، وسليمان عندهم أفقه ، وكلاهما ثقة جليل عالم ، وعبد الله بن دينار تابع أيضا ثقة ، توفي عراك بن مالك الغفاري بالمدينة سنة اثنتين ومائة ، وتوفي سليمان بن يسار سنة سبع ومائة .

وقد تقدم ذكر وفاة عبد الله بن دينار في أول بابه من هذا الكتاب ، وما زال العلماء قديما يأخذ بعضهم عن بعض ، ويأخذ الكبير عن الصغير ، والنظير عن النظير ، ونفخ الشيطان في أنوف كثير من أهل عصرنا ببلدنا فأعجبوا بما عندهم وقنعوا بيسير ما علموا ونصبوا الحرب لأهل العناية ، وأبدوا له الشحناء والعداوة حسدا وبغيا ، وقديما كان في الناس الحسد ، ولقد كان ذلك فيما روي من إبليس لآدم ، ومن ابني آدم بعضهما لبعض ، ولقد أحسن سابق - رحمه الله - حيث يقول :


جنى الضغائن آباء لنا سلفوا فلن تبيد وللآباء أبناء

وقد ذم الله الحاسدين في كتابه ونهى عن الحسد رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : لا تحاسدوا ، ثم قال : إذا حسدتم ، فلا تبغوا ولا معصوم إلا من عصمه الله ، فهو حسبنا لا شريك له .

[ ص: 125 ] وفي هذا الحديث من الفقه أن الخيل لا زكاة فيها ، وأن العبيد لا زكاة فيهم ، وجرى عند العلماء مجرى العبيد والخيل الثياب ، والفرش ، والأواني ، والجواهر ، وسائر العروض ، والدور ، وكل ما يقتنى من غير العين ، والحرث ، والماشية ، وهذا عند العلماء ما لم يرد بذلك ، أو بشيء منه تجارة ، فإن أريد بشيء من ذلك التجارة فالزكاة واجبة فيه عند أكثر العلماء ، وممن رأى الزكاة في الخيل ، والرقيق وسائر العروض كلها إذا أريد بها التجارة - عمر ، وابن عمر ، ولا مخالف لهما من الصحابة ، وهو قول جمهور التابعين بالمدينة ، والبصرة ، والكوفة ، وعلى ذلك فقهاء الأمصار بالحجاز ، والعراق ، والشام ، وهو قول جماعة أهل الحديث .

وقد روي عن ابن عباس وعائشة أنه لا زكاة في العروض ، قال سفيان : عن ابن أبي ذئب ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : ليس في العروض صدقة . وهذا لو صح كان معناه عندنا أن لا زكاة في العروض إذا لم يرد بها التجارة ; لأنها إذا أريد بها التجارة جرت مجرى العين ; لأن العين من الذهب والورق تحولت فيها طلبا للنماء فقامت مقامها ، وكذلك قول كل من روي عنه من التابعين : لا زكاة في العروض . على هذا محمله عندنا ، وعلى ما ذكرنا هذا مذهب جمهور الفقهاء ; لأنها اشتريت بالذهب ، والورق لترد إلى الذهب ، والورق ، ولا يحصل التصرف [ ص: 126 ] في العين إلا بذلك ، فلهذا قامت العروض مقام العين ، فإذا اشتريت للقنية ، فلا صدقة فيها ، وقد شذ داود ، فلم ير الزكاة في العروض ، وإن نوى بها صاحبها التجارة ، وحجته الحديث المذكور في هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة ، قال : ولم يقل إلا أن ينوي بها التجارة ، واحتج ببراءة الذمة ، وأنه لا يجب فيها شيء إلا باتفاق ، أو دليل لا معارض له ، قال : والاختلاف في زكاة العروض موجود . فذكر عن عائشة ، وابن عباس ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ما ذكرنا ، وذكر عن مالك مذهبه فيما بار من العروض على التجار وكعبد ممن ليس بمدبر ، وقوله في التاجر يبيع العرض بالعرض ، ولا ينض له شيء في حوله ، وجعل هذا خلافا أسقط به الزكاة في العروض ، واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس على المسلم في عبده ، ولا في فرسه صدقة .

وقال سائر العلماء : إنما معنى هذا الحديث فيما يقتنى من العروض ، ولا يراد به التجارة ، وللعلماء في زكاة العروض التي [ ص: 127 ] تبتاع للتجارة قولان أيضا : أحدهما : أن صاحبها يزكيها عن الثمن الذي اشتراها به ، والآخر : أنها تقوم بالغا ما بلغت ، نقصت أو زادت ، والمدبر وغير المدبر عند جمهور أهل العلم سواء ، يقوم عند رأس الحول ويزكي كل ما نوى به التجارة في كل حول ، وممن قال ذلك : الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد .

وقال مالك : المدبر يقوم إذا نض له شيء في العام ، وغير المدبر ليس عليه ذلك ، وإن أقام العرض للتجارة عنده سنين ليس عليه فيه زكاة ، فإذا باعه زكاه زكاة واحدة لسنة واحدة . وهو قول عطاء .

وتحصيل مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة : إذا كانت العروض للتجارة ، ففيها الزكاة إذا بلغت قيمتها النصاب ، يقومها بالدنانير ، أو بالدراهم ، الأغلب من نقد بلده - رأس الحول ويزكي ، وسواء باع العروض بالعروض ، أو باع العروض بالعين ، وسواء نض له في العام شيء ، أو لم ينض ، وهذا كله قول الأوزاعي ، والثوري ، والحسن بن حي وسائر الفقهاء البغداديين من أهل الحديث .

وقال مالك : إن كان ممن يبيع العرض بالعرض ، فلا زكاة فيه حتى ينض ماله ، وإن كان يبيع بالعين ، والعرض [ ص: 128 ] فإنه يزكي ، قال : وإن لم يكن ممن يدبر التجارات فاشترى سلعة بعينها فبارت عليه فمضت أحوال ، فلا زكاة عليه ، فإذا باع زكى زكاة واحدة .

قال : وأما المدبر الذي يكثر خروج ما ابتاع عنه ويقل بواره وكساده ويبيع ، فإنه يقوم ما عنده من السلع ويحصي ما عنده من العين ، وما له من الدين في ملأ وثقة مما لا يتعذر عليه أخذه ويقوم عروضه , يفعل ذلك في كل عام إذا نض له شيء من العين ليزكيها مع ما نض له من العين ، وسواء نض له نصاب أم لا .

وقال ابن القاسم : إذا نض له شيء من العين قوم عروضه وزكى لحوله منذ ابتدأ تجره .

وقال أشهب : لا يقوم حتى يمضي له حول مستقبل مذ باع بالعين ; لأنه حينئذ صار مدبرا ممن يلزمه التقويم .

وقال ابن نافع في الذي يدبر العروض بالعروض ، ولا يبيع بعين : إنه لا زكاة عليه أبدا حتى ينض له مائتا درهم ، أو عشرون دينارا ، فإذا نض له ذلك زكاه وزكى ماله بعد ذلك من قليل أو كثير ينض له ، ولا تقويم عليه ، وقد ذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك ، قال : ومن كان [ ص: 129 ] عنده مال ، أو مالان ، إنما يضعه في سلعة ، أو سلعتين ، ثم يبيع فيعرف حول كل مال ، فإنه إذا مر به اثنا عشر شهرا زكى ما في يديه من العين ، ثم لا زكاة عليه فيما عنده من العروض ، وإن أقام سنين حتى يبيع ; لأن هذا يحفظ ماله وأحواله ، والمدبر لا يحفظ ماله ، ولا أحواله فمن ثم قوم هذا ، ولم يقوم هذا .

وقال الليث : إذا ابتاع متاعا للتجارة فبقي عنده أحوالا ، ثم باعه فليس عليه إلا زكاة واحدة , مثل قول مالك سواء .

وأما زكاة الخيل السائمة ، فقد مضى القول فيها في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، ولم يختلف العلماء أن العروض كلها من العبيد ، وغير العبيد إذا لم تكن تبتاع للتجارة أنه لا زكاة فيها ، وسواء ورثها الإنسان أو وهبت له ، أو اشتراها للقنية لا شيء فيها بوجه من الوجوه .

واختلف الفقهاء فيمن ورث عروضا أو وهبت له فنوى بها التجارة ، فإنها لا تكون التجارة حتى يبيع ، ثم يستقبل بالثمن حولا ، وقال فيمن ورث حليا ينوي به التجارة كان للتجارة وفرق بين الحلي ، والعروض ، وقال الكوفيون : الحلي وسائر [ ص: 130 ] العروض سواء من ورث منها شيئا فنوى بها التجارة ، فإنها لا تكون للتجارة حتى يبيعها فيكون ثمنها للتجارة ، وقالوا : إذا كان عنده عروض لغير التجارة فنواها للتجارة لم تكن للتجارة حتى يبيعها فيكون البدل للتجارة ، وإن كانت عنده للتجارة فنواها لغير التجارة صارت لغير التجارة ، وهو قول مالك ، والشافعي ، والثوري ، وعامة أهل العلم إلا إسحاق ابن راهويه ، فإنه جعل النية عاملة في ذلك بكل وجه .

قال أبو عمر : الحجة في زكاة العروض إذا اتجر بها صاحبها حديث سمرة بن جندب مع ما قدمنا ذكره عن الصحابة الذين لا مخالف لهم منهم ، وهو قول جمهور أهل العلم على ما تقدم ذكره .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، قال : حدثنا يحيى بن حسان ، قال : حدثنا سليمان بن موسى أبو داود ، قال : حدثنا جعفر بن سعيد بن سمرة بن جندب ، قال : حدثني خبيب بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن سمرة ، عن سمرة بن جندب : أما بعد ، فإن رسول الله صلى [ ص: 131 ] الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد الصايغ في المسجد الحرام ، قال : حدثنا مروان بن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، قال : أخبرني محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب ، عن أبيه ، عن سمرة ، قال : وكان ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الرقيق الذي يعد للبيع .

أخبرنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الديبلي ، قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد ، قال : أخبرنا سعيد بن منصور ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : أخبرني أبو عمرو بن حماس أن أباه حماسا أخبره أن عمر بن الخطاب مر به ، ومعه أدم وأهب يتجر بهما فأقامها ، ثم أخذ صدقتها من قبل أن تباع .

وذكر الشافعي ، قال : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله ابن أم سلمة ، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماسا ، قال : مررت على عمر بن الخطاب ، وعلى عاتقي أدمة أحملها ، فقال : ألا تؤدي زكاتك يا حماس ، فقلت : [ ص: 132 ] يا أمير المؤمنين مالي غير هذه وأهب في القرظ ، فقال : ذلك مال فضع فوضعتها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة .

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن أبي سلمة أن أبا عمرو بن حماس أخبره أن أباه حماسا كان يبيع الأدم ، والجعاب ، وأن عمر قال له : يا حماس أد زكاة مالك ، فقال : والله ما لي مال ، إنما أبيع الأدم ، والجعاب ، فقال : قومه وأد زكاته .

وذكر أبو بكر الأثرم ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه كان يقول : كل مال ، أو رقيق ، أو دواب أدير للتجارة ففيه الزكاة .

وقال أبو جعفر الطحاوي : روي عن عمر ، وابن عمر زكاة عروض التجارة من غير خلاف من الصحابة .

[ ص: 133 ] قال أبو عمر : لهذا ، ومثله قلنا : إن الذي روي عن عائشة ، وابن عباس في أن لا زكاة في العروض ، إنما ذلك إذا لم يرد بها التجارة .

وأما الآثار المسقطة للزكاة عن العروض ما لم يرد بها التجارة على ما ذكرنا عن أهل العلم ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ليس على المسلم في عبده ، ولا فرسه صدقة ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : قد عفوت لكم عن صدقة الخيل ، والرقيق .

حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمود بن غيلان ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق فأدوا زكاة أموالكم من كل مائتين خمسة .

وحدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا ابن نمير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد عفوت لكم عن صدقة الخيل ، والرقيق ، وليس فيما دون مائتين زكاة .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن [ ص: 134 ] المبارك ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة وسليمان ، عن عبد الله بن دينار ، عن سليمان بن يسار ، عن عراك بن مالك ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس على المسلم في عبده ، ولا فرسه صدقة .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أيوب بن موسى ، عن مكحول ، عن سليمان بن يسار ، عن عراك بن مالك ، عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي - عليه السلام - ، قال : ليس على المسلم في عبده ، ولا في فرسه صدقة .

وأخبرنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد ، قال : أخبرنا محمد بن علي بن حرب المروزي ، قال : حدثنا محرز بن الوضاح ، عن إسماعيل ، وهو ابن أمية ، عن مكحول ، عن عراك بن مالك ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا زكاة على الرجل المسلم في عبده ولا فرسه .

قال أبو عمر : هكذا في حديث إسماعيل بن أمية ، عن مكحول ، عن عراك ، وفي حديث أيوب بن موسى : عن مكحول ، عن سليمان ، عن عراك ، وهو أولى بالصواب إن شاء الله .

[ ص: 135 ] وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى ، عن خيثم ، قال : حدثني أبي ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس على المرء في فرسه ، ولا مملوكه صدقة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن خيثم بن عراك بن مالك ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس على المسلم صدقة في عبده ، ولا في فرسه .

قال أبو عمر : فأجرى العلماء من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم من الخالفين سائر العروض كلها على اختلاف أنواعها مجرى الفرس ، والعبد إذا اقتنى ذلك لغير التجارة ، وهم فهموا المراد ، وعلموه فوجب التسليم لما أجمعوا عليه ; لأن الله عز وجل قد توعد من اتبع غير سبيل المؤمنين أن يوليه ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ، وقد زاد بعض المحدثين في هذا الحديث كلمة توجب حكما عند بعض أهل العلم .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، ومحمد بن [ ص: 136 ] يحيى بن فياض ، قالا : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن رجل ، عن مكحول ، عن عراك بن مالك ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس في الخيل ، والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر .

قال أبو عمر : هذه الزيادة جاءت في هذا الحديث كما ترى ، ولا ندري من الرجل الذي رواها عن مكحول ، وإنما كنا نعرف هذه الزيادة لجعفر بن ربيعة ، عن عراك بن مالك هذا إن صحت عنه أيضا .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : حدثنا نافع بن يزيد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عراك بن مالك ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا صدقة في فرس الرجل ، ولا عبده إلا صدقة الفطر ، وهذا لم يجئ به غير جعفر بن ربيعة إلا أنه قد روي بأسانيد معلولة كلها ، فاحتج بهذه الزيادة بعض من ذهب مذهب العراقيين في إيجاب صدقة الفطر في المملوك الكافر ، فقال : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس على المسلم في عبده ، ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق ، ولم يفرق بين الكافر والمسلم .

[ ص: 137 ] قال أبو عمر : قد مضى في حديث مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر من هذا الكتاب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر من رمضان على الحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى ، والصغير ، والكبير من المسلمين ، وفي تخصيصه المسلمين دفع لإيجابها على أحد من الكافرين ، وهذا قاطع ، وقد بينا هذا المعنى في باب نافع ، والحمد لله .

وقد أجمع العلماء على أن على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عن كل مملوك له إذا كان مسلما ، ولم يكن مكاتبا ، ولا مرهونا ، ولا مغصوبا ، ولا آبقا ، أو مشترى للتجارة ، إلا داود وفرقة شذت فرأت زكاة الفطر على العبد فيما بيده دون مولاه .

واختلفوا في هؤلاء فذهب مالك ، والشافعي ، والليث ، والأوزاعي إلى أن على السيد في عبيد التجارة إذا كانوا مسلمين زكاة الفطر . وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .

وحجتهم حديث نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر على كل حر ، وعبد . لم يخص عبدا من عبد .

وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وعبيد الله بن الحسن العنبري : ليس في عبيد التجارة صدقة الفطر ، وهو قول عطاء و إبراهيم النخعي ، واختلفوا أيضا في زكاة الفطر عن المكاتب ، فذهب [ ص: 138 ] مالك ، وأصحابه إلى أن على الرجل أن يخرج زكاة الفطر عن مكاتبه ، وهو قول عطاء . وبه قال : أبو ثور .

وحجتهم في ذلك ما ذهبوا إليه وقام دليلهم عليه من أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم .

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري ، وأصحابهم : ليس على أحد أن يؤدي عن مكاتبه صدقة الفطر ، وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وبه قال أحمد بن حنبل .

وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان يؤدي عن مملوكيه ، ولا يؤدي عن مكاتبيه ، ولا مخالف له من الصحابة ، ومن جهة النظر المكاتب كالأجنبي في استحقاق كسبه دون مولاه وأخذه من الزكاة ، وإن كان مولاه غنيا ، ففي القياس أن لا يلزم سيده أن يخرج زكاة الفطر عنه .

واختلفوا في العبد الغائب : هل على سيده فيه صدقة الفطر ؟ ، وفي الآبق ، والمغصوب : هل على سيدهم فيهم زكاة الفطر ؟

فأما العبد الغائب إذا غاب بإذن سيده ، ولم يكن آبقا ، وكان معلوم الموضع مرجو الرجعة ، فلا خلاف بين العلماء في إيجاب زكاة الفطر على سيده إلا داود ، ومن قال بقوله ، فإنهم يوجبون زكاة الفطر على العبد فيما بيده دون سيده ، وقد مضى القول في هذه المسألة في باب نافع .

وأما الآبق ، والمغصوب ، فإن مالكا قال : إذا كانت غيبته قريبة [ ص: 139 ] علمت حياته ، أو لم تعلم إذا كان ترجى رجعته وحياته زكى عنه ، وإن كانت غيبته ، وإباقه ، قد طال ويئس منه ، فلا أرى أن يزكى عنه .

وقال الشافعي : تؤدى عن المغصوب ، والآبق ، وإن لم ترج رجعتهم إذا علم حياتهم ، وهو قول أبي ثور .

وقال أبو حنيفة في العبد الآبق ، والمغصوب ، والمجحود : ليس على مولاه أن يزكي عنه زكاة الفطر ، وهو قول الثوري ، وعطاء .

وروى أسد بن عمرو ، عن أبي حنيفة أن عليه في الآبق صدقة الفطر ، وقال : وقف عليه في المغصوب صدقة الفطر .

وقال الأوزاعي : إذا علمت حياته أدى عنه إذا كان في دار الإسلام ، وقال الزهري : إن علم بمكانه - يعني الآبق - أدى عنه . وبه قال أحمد بن حنبل .

واختلفوا في العبد المرهون فمذهب مالك ، والشافعي أن على الراهن أن يؤدي عنه زكاة الفطر ، وهو قول أبي ثور ، ومذهب أبي حنيفة أن الراهن إذا كان عنده وفاء بالدين الذي رهن فيه عبده وفضل مائتي درهم أدى زكاة الفطر عن العبد ، وإن لم يكن ذلك عنده فليس عليه شيء .

[ ص: 140 ] واختلفوا في العبد يكون بين شريكين ، فقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما : يؤدي كل واحد منهما عنه من زكاة الفطر بقدر ما يملك منه ، وهو قول محمد بن الحسن .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه حاشا محمدا في عبد بين رجلين : ليس على واحد منهما فيه صدقة الفطر ، وهو قول الحسن ، وعكرمة ، وبه قال الثوري ، والحسن بن حي ، فإن كان العبيد جماعة فمثل ذلك عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف لا يجب فيهم على سادتهم المشتركين فيهم شيء ، وعند محمد يجب .

واختلفوا أيضا في العبد المعتق بعضه ، فقال مالك : يؤدي السيد عن نصفه المملوك ، وليس على العبد أن يؤدي عن نصفه الحر .

وقال عبد الملك بن الماجشون : على السيد أن يؤدي عنه صاعا كاملا .

وقال الشافعي : يؤدي السيد عن النصف المملوك ، ويؤدي العبد عن نصفه الحر ، وبه قال محمد ، عن سلمة ، قال : عليه أن يؤدي عن نفسه بقدر حريته ، قال : فإن لم يكن للعبد مال رأيت لسيده أن يزكي عن كله .

وقال أبو حنيفة : ليس على السيد أن يؤدي عما ملك من العبد ، ولا على العبد أن يؤدي عن نفسه ، وقال أبو ثور ، ومحمد : على العبد أن يؤدي عن نفسه جميع زكاة الفطر ، وهو بمنزلة العبد إذا أعتق نصفه ، فكأنه قد عتق كله .

[ ص: 141 ] واختلفوا في صدقة الفطر في العبد في بيع الخيار ، فقال مالك : إذا كان الخيار للبائع أو المشتري فالصدقة على البائع , فسخ البيع أو أمضاه . وقال الشافعي : إذا كان الخيار للبائع ، فأنفذ البيع فعلى البائع ، وإن كان للمشتري فالزكاة على المشتري ، وإن كان الخيار لهما فعلى المشتري .

وقال ابن شريح : من باع عبدا على أنه بالخيار أو المشتري ، أو هما جميعا ، فقد اختلف قول الشافعي في ذلك ، فقال في بعض أقاويله : الصدقة على البائع كان الخيار له أو للمشتري ، أو لهما .

قال أبو عمر : وهذا قول مالك سواء ، قال ابن شريح : وقال الشافعي : إذا كان العبد عند المشتري فأهل شوال ، وهو عنده كان عليه صدقة الفطر , اختار رده أو أمضاه .

وقال أبو حنيفة : إذا كان البائع بالخيار ، أو المشتري فصدقة الفطر عن العبد على من يصير إليه العبد إذا جاء يوم الفطر ، ومدة الخيار باقية . وقال زفر : إن كان الخيار للمشتري فعليه صدقة الفطر , فسخ أو أجاز ، وإن كان للبائع فعلى البائع , فسخ أو أجاز .

واختلفوا في العبد الموصي برقبته لرجل ، ولآخر بخدمته ، فقال عبد الملك بن الماجشون : الزكاة عنه على من جعلت له الخدمة إذا كان زمانا طويلا .

[ ص: 142 ] وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو ثور : زكاة الفطر عنه على مالك رقبته .

واختلفوا في عبيد العبيد ، فقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا أنه ليس على الرجل في عبيد عبيده صدقة الفطر .

وقال أبو حنيفة ، والشافعي : صدقة الفطر عنهم جميعا على المولى ، وقال الليث : يخرج عن عبيد عبيده زكاة الفطر ، ولا يؤدي عن مال عبده الزكاة .

وأما مال العبد ، فإن مالكا قال : لا زكاة في مال العبد على السيد ، ولا على العبد . وهو قول الأوزاعي .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري : مال العبد لمولاه وزكاته على المولى .

وروي عن عطاء : أن على العبد أن يخرج الزكاة عما بيده ويزكي عن نفسه صدقة الفطر . وبه قال أبو ثور وداود ، وهو عندهم مالك صحيح الملك ، وللكلام في ملك العبد موضع غير هذا ، وقد مضى منه في باب نافع من هذا الكتاب ما فيه كفاية وبالله التوفيق .

وقد أتينا من المسائل في هذا الباب مما كنا قد قصرنا عنه في باب نافع وبالله العون لا شريك له .




الخدمات العلمية