الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ صور التقرير ] ثم في التقرير صور تعرض لها الشيخ في شرح الإلمام " : إحداها : أن يخبر النبي عليه السلام عن وقوع فعل في الزمن الماضي على وجه من الوجوه ، ويحتاج إلى معرفة حكم من الأحكام ، هل هو من [ ص: 60 ] لوازم ذلك الفعل ، فإذا سكت عن بيان كونه لازما دل على أنه ليس من لوازم ذلك الفعل ، كما لو أخبر بإتلاف يحتاج إلى معرفة تعلق الضمان أو عدمه ، كإتلاف خمر الذمي مثلا ، فسكوته يدل على عدم تعلق الضمان به ، وكما لو أخبر عن وقوع العبادة المؤقتة على وجه ما ، ويحتاج إلى معرفة حكم القضاء بالنسبة إليها ، فإذا لم يبينه دل على عدم وجوب القضاء .

                                                      وثانيتها : أن يسأل عن قول أو فعل ، لا يلزم من سكوته عليه مفسدة في نفس الأمر ، لكن قد يكون ظن الفاعل أو القائل يقتضي أن تترتب عليه مفسدة على تقديم امتناعه ، فهل يكون هذا السكوت دليلا على الجواز ، بناء على ظن المتكلم أو لا ; لأنه لا يلزم منه مفسدة في نفس الأمر ، لكن المطلق إنما أرسل الثلاث بناء على ظنه بقاء النكاح ، فيقضي ظنه بكون المفسدة واقعة على تقدير امتناع الإرسال . هذا إذا ظهر للمتلاعنين والحاضرين عقب طلاقه أن الفرقة وقعت باللعان ، وإلا فيكون البيان واجبا لمفسدة الوقوع في الإرسال . ومثاله أيضا : استبشاره عليه السلام بإلحاق القائف عليه السلام نسب أسامة بن زيد ، فإن الذين لا يعتبرون إلحاق القائف يعتذرون بأن الإلحاق مفسدة [ ص: 61 ] في صورة الاشتباه ، ونسب أسامة لاحق بالفراش في حكم الشرع ، فلا تتحقق المفسدة عندهم في نفس الأمر ، لكن لما كان الطاعنون في النسبة اعتقدوا أن إلحاق القافة صحيح ، اقتضى ذلك الظن منهم مع ثبوت النسب شرعا عدم المفسدة في إلحاق القائف . وثالثتها : أن يخبر عن حكم شرعي بحضرته عليه السلام ، فيسكت عنه فيدل ذلك على الحكم ، كما لو قيل بحضرته : هذا الفعل واجب أو محظور إلى غيرهما من الأحكام . ورابعتها : أن يخبر بحضرته عن أمر ليس بحكم شرعي ، يحتمل أن يكون مطابقا ، وأن لا يكون ، فهل يكون سكوته دليلا على مطابقته ؟ كحلف عمر بحضرته أن ابن صياد الدجال ولم ينكر عليه ، فهل يدل على كونه هو ؟ وفي ترجمة بعض أهل الحديث ما يشعر بأنه ذهب إلى ذلك . قال الشيخ : والأقرب عندي أنه لا يدل ; لأن مأخذ المسألة ومناطها أعني كون التقرير حجة هو العصمة من التقرير على باطل ، وذلك يتوقف على تحقق البطلان ، ولا يكفي فيه تحقق العصمة . نعم ، التقرير يدل على جواز اليمين على حسب الظن ، وأنها لا تتوقف على العلم ; لأن عمر حلف على حسب ظنه ، وأقره عليه . ا هـ .

                                                      ويلتحق بالتقرير صور أخرى . إحداها : ذكرها ابن السمعاني ، وهي ما يبلغ النبي عليه السلام عنهم ، ويعلمه ظاهرا من حالهم ، وتقرر عنده من عاداتهم ، مما سبيله الانتشار والاشتهار ، فلا يتعرض له بنكير ، كنوم الصحابة قعودا ينتظرون [ ص: 62 ] الصلاة ، فلا يأمرهم بتجديد الطهارة ، وكعلمه بأن أهل الكتاب يتعاملون بالربا ، ويشربون الخمر فلا يتعرض لهم . قال : ويتصل بهذا ما استدل أصحابنا به من إسقاط الزكاة في أشياء سكت النبي عليه السلام عنها من الزيتون والرمان ونحوهما ، وذلك أنه كان لا يخفى عليه أن الناس يتخذونها كما يتخذون الكروم والنخيل ، وكان الأمر في إرساله المصدقين والسعاة في أقطار الأرض ظاهرا بينا ، وكان إذا بعثهم كتب لهم الكتب ، فتقرأ بحضرته ويشهد عليها ، فلو كان يجب فيها شيء لأمر بأخذه ، ولو أمر لظهر كما ظهر غيره من الأشياء التي فيها الوجوب للأخذ ، فلما لم يكن كذلك دل على سقوط الزكاة عنها ، وأما قول من روى أنهم كانوا يبيعون أمهات الأولاد على عهد النبي عليه السلام ، فإنها لم تجر بهذا المجرى في الدلالة على جواز بيعهن ; لأنه لا يعلم هل كان يبلغه هذا الفعل عنهم أو لم يظهر له ذلك ، وقد قام الدليل على فساد بيعهن من وجوه ، فلم يعترض به على تلك الدلالة ، وهكذا ذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه من صور كون الشيء من الأمور العامة ولا يتعرض فيه بالأخذ والإيجاب ، فيعلم أنه غير واجب ، كما قال الشافعي ومالك في الخضراوات كانت على عهد الرسول ، فلم يبلغهما أنه أخذ منها الزكاة أو أوجبها . قال : وهذا فيما إذا كان تركه يؤدي إلى ترك الفرض ، فأما المبايعات والإجارة التي لم ترد فيها النصوص المبينة للصحة والفساد ، فلا يكون الإمساك عنه دليلا على الصحة ; لأنه لا يتعلق بالفوات ، وقد أقام الدليل عليه من المعاني المودعة في النصوص ، ولا يكفي إقامة الدلالة في مثل الخضراوات ، بل الأخذ والتقدم بالإحرام إن كان فيها فرض . ا هـ .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية