الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 63 ] أحكام سكوته ] ثم تكلم ابن السمعاني على أحكام سكوته ، وقد نقلها إلى دليل مسألة التحسين والتقبيح ; لأنه ذكرها هناك فلتراجع ، وقد ذكرها إلكيا ، وهو أن يسكت عما لم تشتمل عليه أدلة الشرع ، ومما ذكر له في القرآن ، والمستفتي ليس خبيرا بأدلة الشرع بصيرا بالأحكام . قال : فسكوت الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حجة ، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فإنه لو كان واجبا عليه لبينه . ومثاله : ما روي { أن أعرابيا محرما جاء إلى الرسول ، وعليه ثوب مضمخ بالخلوق ، فقال له عليه السلام : انزع الجبة واغسل الصفرة ، واصنع في حجتك ما تصنع في عمرتك } ، ولم يتعرض لوجوب الفدية ، ولو وجبت لبينها ; لجهل الأعرابي ، فإن من جهل جواز اللبس ، فهو بالفدية أجهل ، وكذلك سكوته في قضية الأعرابي المجامع عن بيان حال المرأة . قال : ومن هذا القبيل استدلال الشافعي في مسألة الخارج من غير السبيلين ، بأنه ليس من الأحداث ; لأن الأحداث مقصاة من الكتاب والسنة ، ولو كان من قبيل الأحداث لذكر في الكتاب والسنة ، فلو كان حدثا كان [ ص: 64 ] من الأحداث المشهورة التي تعم بها البلوى ، واقتباس ذلك من القياس غير ممكن ، وكذلك قال في صلاة المغرب : بين جبريل لكل صلاة وقتين ، ولم يبين للمغرب وقتين ، وإنما جاء مبينا للأوقات ، فلو كان لها وقتان لبينه جبريل .

                                                      قال : ويشترط في هذا أن يكون المسكوت عنه لم تشمله أدلة الشرع ، فلو كان له ذكر فيها ، كما لو أتى بزان فأمر بالجلد ، ولم يذكر المهر ، والعدة ونحوهما ، فذلك مما لا يحتج به ; لأن ذلك يحال به على البيان في غير الموضع . قال : وعلى هذا سكوت الراوي ، قد يحتج به ، وقد لا يحتج به ، فإذا ساق الراوي قضية ظهر منها أنه بعد استغراقها بالحكاية أنه لم يغادر من مشاهير أحكامها شيئا كما نقل الراوي قضية ماعز من مفتتحها إلى مختتمها ، ولم ينقل أنه جلد ، ورد على هذا من ظن المعترض أن الجلد لا يتشوف إلى نقله عند نقل الرجم ، فإنه غير محتفل به في مثل ذلك ، ويجاب بأن سياق القضية واستغراقه بتفاصيلها بالحكاية من غير تعرض للجلد دليل على نفي الجلد ، إذ لو جرى الجلد لنقله . ومنه : حكاية المواقع في الصور النادرة ، والظن بالراوي أنه إذا نقل الحديث أن ينقل بصورتها إذا كانت الصورة نادرة ، فإذا سكت عنها فسكوته حجة .

                                                      مثاله : ما روي { أنه عليه السلام أقاد مسلما بكافر ، وقال : أنا أحق من وفى بذمته } ، قال بعض المتأولين : لعل كافرا قتل كافرا ، ثم أسلم القاتل ، وفي ذلك نظر ، فإنه لو كان لنقل مثل ذلك على ندور ، وتشوف الطباع إلى نقل الغرائب ، وهذا حسن . ا هـ .

                                                      الثانية : إذا استبشر من فعل الشيء أو قوله ، كان ذلك دليلا على كونه جائزا حسنا ; لأنه لا يستحسن ممنوعا منه . يبقى أنه هل استحسنه [ ص: 65 ] لكونه مندوبا إليه شرعا ؟ أو لكونه لغرض عادي ؟ فيه احتمال ، وينبغي أن يطرقه الخلاف السابق ، والأولى حمله على الشرعي ; لأنه الأغلب من حاله عليه السلام ، ولكونه مبعوثا لبيان الشرعيات ، وأما غضبه ، وتغير وجهه الكريم من شيء ، فذلك يدل على منع ذلك الشيء ، ثم هل ذلك المنع على جهة التحريم أو الكراهية ؟ يحتمل أن يجيء فيه الخلاف ، والمرجع في هذا النظر في قرائن أحواله وقت غضبه ، فيحكم بها ، فإن لم تكن قرينة أو لم يفعل فالظاهر التحريم .

                                                      واعلم أن الاستبشار أقوى في الدلالة على الجواز من السكوت ، ولذلك تمسك الشافعي في إثبات القيافة وإلحاق النسب بها باستبشار النبي بقول مجزز المدلجي ، وقد بدت له أقدام زيد وأسامة : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ، واستضعفه الغزالي في المنخول " ، وقال : إنما سر بكلمة صدق صدرت ممن هو مقبول القول فيما بين الكفار على مناقضة قولهم لما قدحوا في نسبة أسامة إلى زيد ، إذ كان رسول الله قد تأذى به ، وغايته أنه ألحق نسبه بمعلوم عنده . ا هـ .

                                                      ورد عليه الطرسوسي ، وقال : لو احتج النبي عليه السلام عليه بما لا يعتقده لدحضت حجته عندهم ، ولقالوا : كيف تحتج علينا بالرمز والقيافة ، وأنت لا تقول به ؟ ونقل إلكيا أن هذا السؤال أورد على الشافعي ، فقيل له : إنما ثبت نسبه بالرسول ، وقول مجزز لغو ، إذ القائف يقضى به [ ص: 66 ] في بيان نسب ملتبس ، ولكن كان الاستبشار لانقطاع مظاهر الكفار عن نسب أسامة بن زيد . فقال مجيبا : لو لم يكن للقيافة أصل لم يستبشر ، فإن ذلك يوهم التلبيس ، وقد كان شديد النكير على الكهان والمنجمين ، ومن لا يستند قولهم إلى أصل شرعي ، ولو لم تكن القيافة معتبرة ، لكانت من هذا القبيل .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية