الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى: وذا النون وهو يونس بن متى ، سمي بذلك لأنه صاحب الحوت ، كما قال تعالى: ولا تكن كصاحب الحوت [القلم: 48] والحوت النون ، نسب إليه لأنه ابتلعه ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                        يا جيد القصر نعم القصر والوادي وجيدا أهله من حاضر بادي     توفي قراقره والوحش راتعه
                                                                                                                                                                                                                                        والضب والنون والملاح والحادي



                                                                                                                                                                                                                                        يعني أنه يجتمع فيه صيد البر والبحر ، وأهل المال والظهر ، وأهل البدو والحضر. إذ ذهب مغاضبا فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني مراغما للملك وكان اسمه حزقيا ولم يكن به بأس ، حكاه النقاش.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: مغاضبا لقومه ، قاله الحسن.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: مغاضبا لربه ، قاله الشعبي ، ومغاضبته ليست مراغمة ؛ لأن مراغمة الله كفر لا تجوز على الأنبياء ، وإنما هي خروجه بغير إذن ، فكانت هي معصيته. وفي سبب ذهابه لقومه وجهان:

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 466 ] أحدهما: أنه كان في خلقه ضيق ، فلما حملت عليه أثقال النبوة ضاق ذرعه بها ولم يصبر لها ، وكذلك قال الله: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف: 35] قاله وهب.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه كان من عادة قومه أن من كذب قتلوه ، ولم يجربوا عليه كذبا ، فلما أخبرهم أن العذاب يحل بهم ورفعه الله عنهم ، قال لا أرجع إليهم كذابا ، وخاف أن يقتلوه فخرج هاربا. فظن أن لن نقدر عليه فيه أربعة تأويلات: أحدها: فظن أن لن نضيق طرقه ، ومنه قوله: ومن قدر عليه رزقه [الطلاق: 7] أي ضيق عليه ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: فظن أن لن نعاقبه بما صنع ، قاله قتادة ، ومجاهد.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: فظن أن لن نحكم عليه بما حكمنا ، حكاه ابن شجرة ، قال الفراء: معناه لن نقدر عليه من العقوبة ما قدرنا ، مأخوذ من القدر ، وهو الحكم دون القدرة ، وقرأ ابن عباس: نقدر بالتشديد ، وهو معنى ما ذكره الفراء ، ولا يجوز أن يكون محمولا على العجز عن القدرة عليه ؛ لأنه كفر.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: أنه على معنى استفهام ، تقديره: أفظن أن لن نقدر عليه ، فحذف ألف الاستفهام إيجازا ، قاله سليمان بن المعتمر. فنادى في الظلمات فيه قولان: أحدهما: أنها ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة جوف الحوت ، قاله ابن عباس ، وقتادة.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنها ظلمة الحوت في بطن الحوت ، قاله سالم بن أبي الجعد. ويحتمل ثالثا: أنها ظلمة الخطيئة ، وظلمة الشدة ، وظلمة الوحدة.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 467 ] أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي ، ولم يكن ذلك عقوبة من الله ؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا ، وإنما كان تأديبا ، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان. قوله تعالى: فاستجبنا له وفي استجابة الدعاء قولان: أحدهما: أنه ثواب من الله للداعي ولا يجوز أن يكون غير ثواب. والثاني: أنه استصلاح فربما كان ثوابا وربما كان غير ثواب. ونجيناه من الغم يحتمل وجهين: أحدهما: من الغم بخطيئته.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: من بطن الحوت لأن الغم التغطية. وقيل: إن الله أوحى إلى الحوت ألا تكسر له عظما ، ولا تخدش له جلدا. وحينما صار في بطنه: قال يا رب اتخذت لي مسجدا في مواضع ما اتخذها أحد. وفي مدة لبثه في بطن الحوت ثلاثة أقاويل: أحدها: أربعون يوما.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: ثلاثة أيام.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: من ارتفاع النهار إلى آخره. قال الشعبي: أربع ساعات ، ثم فتح الحوت فاه فرأى يونس ضوء الشمس ، فقال: سبحانك إني كنت من الظالمين ، فلفظه الحوت.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية