الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الرابع والعشرون والمائتان بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم ) :

وينبني على الفرق تمكين غيره من الحكم بغير ما قال في الفتيا في مواضع الخلاف بخلاف الحكم اعلم أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم ألبتة بل الفتيا فقط فكل ما وجد فيها من الإخبارات فهي فتيا فقط فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة ، ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون نجسا فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا إن كانت مذهب السامع عمل بها ، وإلا فله تركها ، والعمل بمذهبه ، ويلحق بالعبادات أسبابها فإذا شهد بهلال رمضان شاهد واحد فأثبته حاكم شافعي ، ونادى في المدينة بالصوم لا يلزم ذلك المالكي [ ص: 49 ] لأن ذلك فتيا لا حكم ، وكذلك إذا قال حاكم قد ثبت عندي الدين يسقط الزكاة أو لا يسقطها أو ملك نصاب من الحلي المتخذ باستعمال المباح سبب وجوب الزكاة فيه أو أنه لا يوجب الزكاة أو غير ذلك من أسباب الأضاحي ، والعقيقة ، والكفارات ، والنذور ، ونحوها من العبادات المختلف فيها أو في أسبابها لا يلزم شيء من ذلك من لا يعتقده بل يتبع مذهبه في نفسه .

ولا يلزمه قول ذلك القائل لا في عبادة ، ولا في سببها ولا شرطها ، ولا مانعها ، وبهذا يظهر أن الإمام لو قال لا تقيموا الجمعة إلا بإذني لم يكن ذلك حكما ، وإن كانت مسألة مختلفا فيها هل تفتقر الجمعة إلى إذن السلطان أم لا ، وللناس أن يقيموا بغير إذن الإمام إلا أن يكون في ذلك صورة المشاقة ، وخرق أبهة الولاية ، وإظهار العناد والمخالفة فتمنع إقامتها بغير أمره لأجل ذلك لا لأنه موطن خلاف اتصل به حكم حاكم ، وقد قاله بعض الفقهاء .

وليس بصحيح بل حكم الحاكم إنما يؤثر إذا أنشأه في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية فاشتراطي قيد الإنشاء احتراز من حكمه في مواقع الإجماع فإن ذلك إخبار ، وتنفيذ محض [ ص: 50 ] وفي مواقع الخلاف ينشئ حكما ، وهو إلزام أحد القولين اللذين قيل بهما في المسألة ، ويكون إنشاؤه إخبارا خاصا عن الله تعالى في تلك الصورة من ذلك الباب ، وجعل الله تعالى إنشاءه في مواطن الخلاف نصا ، ورد من قبله في خصوص تلك الصورة كما لو قضى في امرأة علق طلاقها قبل الملك بوقوع الطلاق فيتناول هذه الصورة الدليل الدال على عدم لزوم الطلاق عند الشافعي ، وحكم المالكي بالنقض ، ولزوم الطلاق نص خاص تختص به هذه المرأة المعينة ، وهو نص من قبل الله تعالى فإن الله تعالى جعل ذلك للحاكم رفعا للخصومات والمشاجرات ، وهذا النص الوارد من هذا الحاكم أخص من ذلك الدليل العام فيقدم عليه لأن القاعدة الأصولية أنه إذا تعارض الخاص والعام قدم الخاص على العام فلذلك لا يرجع الشافعي يفتي بمقتضى دليله العام الشامل لجملة هذه القاعدة في هذه الصورة منها لتناولها نص خاص بها مخرج لها عن مقتضى ذلك الدليل العام ، ويفتي الشافعي بمقتضى دليله العام فيما عدا هذه الصورة من هذه القاعدة .

وكذلك لو حكم الشافعي باستمرار الزوجية بينهما خرجت هذه الصورة عن دليل المالكي وأفتى فيه بلزوم النكاح ودوامه ، وفي غيرها بلزوم الطلاق لأجل ما أنشأه الشافعي من الحكم تقديما للخاص على العام فهذا هو معنى الإنشاء [ ص: 51 ] وقولي في مسألة اجتهادية احتراز من مواقع الإجماع فإن الحكم هنالك ثابت بالإجماع فيتعذر فيه الإنشاء لتعينه وثبوته إجماعا ، وقولي تتقارب مداركها احتراز من الخلاف الشاذ المبني على المدرك الضعيف فإنه لا يرفع الخلاف بل ينقض في نفسه إذا حكم بالفتوى المبنية على المدرك ، وقولي لأجل مصالح الدنيا احتراز من العبادات كالفتوى بتحريم السباع ، وطهارة الأواني [ ص: 52 ] وغير ذلك مما يكون اختلاف المجتهدين فيه لا للدنيا بل للآخرة بخلاف الاختلاف في العقود والأملاك والرهون والأوقاف ونحوها إنما ذلك لمصالح الدنيا ، وبهذا يظهر أن الأحكام الشرعية قسمان منها ما يقبل حكم الحاكم مع الفتيا فيجمع الحكمان ، ومنها لا يقبل إلا الفتوى ، ويظهر لك بهذا أيضا تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع هل هو من باب الفتوى أو من باب القضاء ، والإنشاء ، وأيضا يظهر أن إخبار الحاكم عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة فتوى ، وأما أخذه للزكاة في مواطن الخلاف فحكم ، وفتوى من جهة أنه تنازع بين الفقراء .

والأغنياء في المال الذي هو مصلحة دنيوية ، ولذلك أن تصرفات السعاة ، والجباة في الزكاة أحكام لا ننقضها ، وإن كانت الفتوى عندنا على خلافها ، ويصير حينئذ مذهبنا ، ويظهر بهذا التقرير أيضا سر قول الفقهاء إن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد لا ينقض ، وأنه يرجع إلى القاعدة الأصولية ، وتصير هذه الصورة مستثناة من تلك الأدلة العامة كاستثناء المصراة ، والعرايا ، والمساقاة ، وغيرها من المستثنيات ، ويظهر بهذا أيضا أن التقريرات من الحكام ليست أحكاما فتبقى الصورة قابلة لحكم جميع تلك الأقوال المنقولة فيها قال صاحب الجواهر ما قضى به من نقل الأملاك ، وفسخ العقود فهو حكم فإن لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة لما رفعت إليه كامرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها فأقره [ ص: 53 ] وأجازه ثم عزل ، وجاء قاض بعده قال عبد الملك ليس بحكم ، ولغيره فسخه .

وقال ابن القاسم هو حكم لأنه أمضاه ، والإقرار عليه كالحكم بإجازته فلا ينقض ، واختاره ابن محرز ، وقال إنه حكم في حادثة باجتهاده ، ولا فرق بين أن يكون حكمه فيه بإمضائه أو فسخه أما لو رفع إليه هذا النكاح فقال أنا لا أجيز هذا النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخ هذا النكاح بعينه فهذه فتوى ، وليست بحكم أو رفع إليه حكم بشاهد ويمين فقال أنا لا أجيز الشاهد واليمين فهو فتوى ما لم يقع حكم على عين الحكم قال ولا أعلم في هذا الوجه خلافا قال وإن حكم بالاجتهاد فيما طريقه التحريم والتحليل ، وليس بنقل ملك لأحد الخصمين إلى الآخر ، ولا فصل خصومة بينهما ، ولا إثبات عقد ، ولا فسخه مثل رضاع كبير فيحكم بأنه رضاع محرم .

ويفسخ النكاح لأجله فالفسخ حكم ، والتحريم في المستقبل لا يثبت بحكمه بل هو معرض للاجتهاد أو رفعت إليه امرأة تزوجت في عدتها ففسخ نكاحها ، وحرمها على زوجها ففسخه حكم دون تحريمها في المستقبل ، وحكمه بنجاسة ماء أو طعام أو تحريم بيع أو نكاح أو إجارة فهو فتوى ليس حكما على التأبيد ، وإنما يعتبر من ذلك ما شهده ، وما حدث بعد ذلك فهو موكول لمن يأتي من الحكام والفقهاء فظهر أيضا من هذه الفتاوي ، والمباحث أن الفتوى والحكم كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى ، ويجب على السامع اعتقادهما ، وكلاهما يلزم المكلف من حيث الجملة لكن الفتوى إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة ، والحكم إخبار معناه الإنشاء والإلزام من قبل الله تعالى وبيان ذلك بالتمثيل أن المفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل ما وجده عن القاضي ، واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل [ ص: 54 ] أو تقرير أو ترك ، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينشئ الأحكام ، والإلزام بين الخصوم ، وليس بناقل ذلك عن مستنيبه بل مستنيبه قال له أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلته حكمي فكلاهما موافق للقاضي ، ومطيع له ، وساع في تنفيذ مواده غير أن أحدهما ينشئ ، والآخر ينقل نقلا محضا من غير اجتهاد له في الإنشاء كذلك المفتي ، والحاكم كلاهما مطيع لله تعالى قابل لحكمه غير أن الحاكم منشئ ، والمفتي مخبر محض ، وقد ، وضعت في هذا المقصد كتابا سميته الإحكام في الفتاوى والأحكام ، وتصرف القاضي ، والإمام ، وفيه أربعون مسألة في هذا المعنى ، وذكرت فيه نحو ثلاثين نوعا من تصرفات الحاكم ليس فيها حكم ، ولنقتصر هنا على هذا القدر في هذا الفرق .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الرابع والعشرون والمائتان قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم إلى قوله وإلا فله تركها ، والعمل بمذهبه ) :

قلت ما قاله في ذلك صحيح قال ( ويلحق بالعبادات أسبابها فإذا شهد بهلال رمضان واحد فأثبته حاكم شافعي ، ونادى في المدينة بالصوم لا يلزم ذلك المالكي [ ص: 49 ] لأن ذلك فتيا لا حكم ) قلت فيما قاله في ذلك نظر إذ لقائل أنه يقول إنه حكم يلزم جميع أهل ذلك البلد قال ( وكذلك إذا قال حاكم ثبت عندي أن الدين يسقط الزكاة أو لا يسقطها أو ملك نصاب من الحلي المتخذ لاستعمال مباح سبب وجوب الزكاة فيه أو أنه لا يوجب الزكاة إلى قوله لا في عبادة ، ولا في سببها ، ولا شرطها ولا مانعها ) قلت لقائل أن يقول إنه يلزم غير ذلك الحاكم ممن يخالف مذهبه مذهبه ما بني على ذلك الثبوت كما إذا ثبت عنده أن الدين لا يسقط الزكاة ، وأراد أخذها ممن يخالف مذهبه مذهبه أنه لا يسوغ له الامتناع من دفعها لا له ، وكذلك ما أشبه ذلك قال ( وبهذا يظهر أن الإمام لو قال لا تقيموا الجمعة إلا بإذني لم يكن ذلك حكما إلى قوله ، وقد قاله بعض الفقهاء وليس بصحيح ) قلت بل هو صحيح كما قال ذلك الفقيه لأنه حكم حاكم اتصل بأمر مختلف فيه فتعين الوقوف عند حكمه ، والله أعلم .

قال ( بل حكم الحاكم إنما يؤثر إذا أنشأه في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية فاشتراطي قيد الإنشاء احتراز من حكمه في مواقع الإجماع فإن ذلك إخبار وتنفيذ محض ) قلت ليس ما قاله من أنه إخبار بصحيح بل [ ص: 50 ] هو تنفيذ محض ، وهو الحكم بعينه إذ لا معنى للحكم إلا التنفيذ ، ومما يوضح ذلك أنه لو أن حاكما ثبت عنده بوجه الثبوت أن لزيد عند عمرو مائة دينار فأمره أن يعطيه إياها أن ذلك الأمر لا يصح بوجه أن يكون إخبارا ، وهذا الموضع ، وما أشبهه من مواقع الإجماع فلا يصح قوله إن مواقع الإجماع لا يدخلها الحكم بل الإخبار بوجه أصلا قال ( وفي مواقع الخلاف ينشئ حكما ، وهو إلزام أحد القولين اللذين قيل بهما في المسألة ) قلت إلزامه أحد القولين هو تنفيذ الحكم وإمضاؤه بعينه قال ( ويكون إنشاؤه إخبارا خاصا عن الله تعالى في تلك الصورة من ذلك الباب ) قلت وكيف يكون إنشاء ، ويكون مع ذلك خبرا ، وقد تقدم له الفرق بين الإنشاء والخبر هذا ما لا يصح بوجه قال ( وجعل الله تعالى إنشاءه في مواطن الخلاف نصا ، ورد من قبله في خصوص تلك الصورة إلى قوله فهذا هو معنى الإنشاء ) قلت لا كلام أشد فسادا من كلامه [ ص: 51 ] في هذا الفصل .

وكيف يكون إنشاء الحاكم الحكم في مواقع الخلاف نصا خاصا من قبل الله تعالى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا اجتهد أحدكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد } وكيف يصح الخطأ فيما فيه النص من قبل الله تعالى هذا كلام بين الخطأ بلا شك فيه ، وما تخيل هو أو غيره من ذلك لا يصح ، ولا حاجة إليه ، وإنما هو يعين في القضية المعينة أحد القولين أو الأقوال إذا اتصل به حكم الحاكم لما في ذلك من المصلحة في نفوذ الحكم وثباته ، ولما فيه من المفسدة لو لم ينفذ لا لما قاله من أنه إنشاء من الحاكم موضوع كنص خاص من قبل الله تعالى ، والله أعلم قال ( وقولي في مسألة اجتهادية احتراز من موقع الإجماع فإن الحكم هنالك ثابت بالإجماع فيتعذر فيه الإنشاء لتعينه وثبوته إجماعا ) قلت هذا كلام ساقط أيضا ، وكما أن الحكم في مواقع الإجماع ثابت بالإجماع فالحكم في مواقع الخلاف ثابت بالخلاف فعلى القول بالتصويب كلاهما حق وحكم الله تعالى ، وعلى القول بعدم التصويب أحدهما حق ، وحكم الله تعالى ، ولكن ثبت العذر للمكلف في ذلك ، وما أوقعه فيما وقع فيه إلا الاشتراك الذي في لفظ الحكم فإنه يقال الحكم في الطلاق المعلق على النكاح اللزوم للمقلد المالكي ، ويقال الحكم الذي حكم به الحاكم الفلاني على فلان معلق الطلاق لزوم الطلاق ، والمراد بالحكم الأول لزوم الطلاق لكل معلق للطلاق من مالكي أو مقلد لمالكي ، والمراد بالحكم الثاني لزوم الطلاق بإلزام الحاكم المحكوم عليه من مالكي أو غير المالكي ، والله أعلم .

قال ( وقولي تتقارب مداركها احتراز من الخلاف الشاذ المبني على المدرك الضعيف فإنه لا يرفع الخلاف بل ينقض في نفسه إذا حكم بالفتوى المبنية على المدرك الضعيف ) قلت للكلام في القول الشاذ والمدرك الضعيف مجال ليس هذا موضعه قال ( وقولي لأجل مصالح الدنيا احتراز من العبادات كالفتوى بتحريم السباع وطهارة الأواني [ ص: 52 ] وغير ذلك مما يكون اختلاف المجتهدين فيه لا للدنيا إلى قوله لا ننقضها ، وإن كانت الفتوى عندنا على خلافها ) قلت ما قاله في ذلك صحيح قال ( ويصير حينئذ مذهبنا ) قلت لا يصير مذهبنا ، ولكنا لا ننقضه لمصلحة الأحكام قال ( ويظهر بهذا التقرير أيضا سر قول الفقهاء إن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد لا ينقض ، وأنه يرجع إلى القاعدة الأصولية إلى قوله وغيرها من المستثنيات ) قلت لا رجوع هنا للقاعدة الأصولية إن كان يعني قاعدة الخاص والعام ، ولكن يرجع إلى قاعدة فقهية ، وهي أن الحكم إذا نفذ على مذهب ما لا ينقض ، ولا يرد ، وذلك لمصلحة الأحكام ورفع التشاجر والخصام قال ( ويظهر بهذا أيضا أن التقريرات من الحكام ليست أحكاما إلى قوله فهو موكول إلى من يأتي من الحكام والفقهاء ) قلت ذلك صحيح ، وأكثره أو كله نقل لا كلام فيه غير أن قول ابن القاسم هو الصحيح عندي ، والله أعلم [ ص: 53 ]

قال ( فظهر أيضا من هذه الفتاوى والمباحث أن الفتوى ، والحكم كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى ، ويجب على السامع اعتقادهما ، وكلاهما يلزم المكلف من حيث الجملة لكن الفتوى إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة ، والحكم إخبار معناه الإنشاء ، والإلزام من قبل الله تعالى ) قلت كيف يكون الإخبار إنشاء ، وقد فرق هو قبل هذا في أول كتابه بينهما ، وكيف يكون الحكم إلزاما من قبل الله تعالى ، وهو ممكن الخطأ على ما نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي تقدم ذكره هذا ما لا يصح ، والله أعلم قال ( وبيان ذلك بالتمثيل أن المفتي مع الله كالمترجم مع القاضي بنقل ما وجده عن القاضي ، واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل [ ص: 54 ] أو تقرير أو ترك ، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينشئ الأحكام والإلزام بين الخصوم إلى آخر الفرق ) قلت ما قاله صحيح ، وما مثل به كذلك إن كان يريد بالإنشاء التنفيذ ، والإمضاء لما كان قبل الحكم فتوى ، وإلا فلا ، والله أعلم قال .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الرابع والعشرون والمائتان بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم ) :

وهو أن كلا منهما ، وإن كان خبرا عن الله تعالى ، ويجب على السامع اعتقاد ذلك ، ويلزم ذلك المكلف من حيث الجملة إلا أن بينهما فرقا من جهتين : ( الجهة الأولى ) أن الفتوى محض إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة ، والحكم إخبار ما له الإنشاء والإلزام أي التنفيذ والإمضاء لما كان قبل الحكم فتوى فالمفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما ، وجده عنده ، واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل أو تقرير أو ترك ، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينفذ ويمضي بين الخصوم ما كان قبل ذلك فتوى ، وليس بناقل ذلك عن مستنيبه بل مستنيبه قال له أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلته حكمي فكما أن كلا من المترجم عن القاضي ، ونائب القاضي موافق للقاضي ومطيع له وساع في تنفيذ مراده غير أن أحدهما ينقل نقلا محضا من غير اجتهاد له في التنفيذ والإمضاء بين الخصوم ، والآخر ينفذ ، ويمضي ما يجتهد فيه من الأحكام على وفق القواعد بين الخصوم كذلك المفتي ، والحاكم كلاهما مطيع لله تعالى قابل لحكمه غير أن المفتي مخبر محض ، والحاكم منفذ وممض هذا ، وتقرير هذه الجهة على ما ذكر هو ما صححه أبو القاسم بن الشاط رحمه الله تعالى قال التسولي على العاصمية ، ومن قوله ، ويجب على السامع اعتقاد ذلك إلخ قال قاض لخصمه اتهمه في حكمه أي ، وهو موافق للقواعد الشرعية لست بمؤمن فقال ، وبم كفرتني قال له قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } ا هـ .

( الجهة الثانية ) أن كل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى ، ولا عكس ، وذلك أن العبادات كلها على الإطلاق [ ص: 90 ] لا يدخلها الحكم ألبتة بل إنما تدخلها الفتيا فقط فكل ما وجد بها من الإخبارات فهي فتيا فقط فليس لحاكم أن يحكم أن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة ، ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون بحلول قليل نجاسة فيه لم تغيره نجسا فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا إن كانت مذهب السامع عمل بها ، وإلا فله تركها ، والعمل بمذهبه قاله الأصل ، وصححه ابن الشاط رحمه الله تعالى قال الأصل ، ويلحق بالعبادات أسبابها فإذا شهد بهلال رمضان شاهد واحد فأثبته حاكم شافعي ، ونادى في المدينة بالصوم لا يلزم ذلك المالكي لأن ذلك فتيا لا حكم ، وكذلك إذا قال حاكم قد ثبت عندي أن الدين يسقط الزكاة أو لا يسقطها أو ملك نصاب من الحلي المتخذ لاستعمال مباح سبب لوجوب الزكاة فيه أو أنه لا يوجب الزكاة أو غير ذلك من أسباب الأضاحي والعقيقة والكفارات والنذور ونحوها من العبادات المختلف فيها أو في أسبابها لا يلزم شيء من ذلك من لا يعتقده بل يتبع مذهبه في نفسه ، ولا يلزمه قول ذلك القائل لا في عبادة ، ولا في سببها ولا شرطها ولا مانعها ، وبهذا يظهر أن الإمام لو قال لا تقيموا الجمعة إلا بإذني لم يكن ذلك حكما ، وإن كانت مسألة مختلفا فيها هل تفتقر الجمعة إلى إذن السلطان أم لا ، وللناس أن يقيموها بغير إذن الإمام إلا أن يكون في ذلك صورة المشاقة ، وخرق أبهة الولاية ، وإظهار العناد والمخالفة فتمتنع إقامتها بغير أمره لأجل ذلك لا لأنه موطن خلاف اتصل به حكم حاكم ، وقد قاله بعض الفقهاء ، وليس بصحيح ا هـ بلفظه .

قال أبو القاسم بن الشاط رحمه الله تعالى ، وفيما قاله في ذلك نظر إذ لقائل أن يقول إن حكم الشافعي بثبوت هلال رمضان بشهادة شاهد واحد حكم يلزم جميع أهل البلد ، وكذلك يلزم غير ذلك الحاكم ممن يخالف مذهبه مذهبه ما بني على ذلك الثبوت كما إذا ثبت عنده أن الدين لا يسقط الزكاة ، وأراد أخذها ممن يخالف مذهبه مذهبه أنه لا يسوغ له الامتناع من دفعها له ، وكذلك ما أشبه ، وحينئذ فقول الإمام لا تقيموا الجمعة إلا بإذني حكم حاكم اتصل بأمر مختلف فيه فيتعين الوقوف عند حكمه كما قاله ذلك الفقيه فهو الصحيح ، والله أعلم ا هـ .

قلت وخالفه ابن فرحون في تبصرته في قوله ، وحينئذ فقول الإمام إلخ حيث وافق ما نقله عن الشيخ سراج الدين عمر البلقيني رحمه الله تعالى من قوله ولقد عجبت من قاض حضر عند سلطان ، ووقع الكلام في صحة إقامة الجمعة في جامع بناه ذلك السلطان فلما تكلموا في الخلاف في ذلك قال القاضي نحكم بصحة إقامة الجمعة فيه ، وهذا الكلام باطل إذ لا يتصور أن [ ص: 91 ] يدخل ذلك ، ولا نحوه تحت الحكم استقلالا ، ولا تضمنا على الإطلاق لكن يدخل بالنسبة إلى واقعة خاصة من تعليق الطلاق أو غيره على صحة إقامة الجمعة في هذا المكان بالنسبة إلى إلزام الشخص لا مطلقا ا هـ .

وأما ما يتأتى فيه حكم الحاكم فضبطه الأصل بأربعة قيود فقال إنما يؤثر حكم الحاكم إذا أنشأه في مسألة اجتهادية تتقارب في المدارك لأجل مصلحة دنيوية قال فقيد الإنشاء احتراز من حكمه في مواقع الإجماع فإن ذلك إخبار وتنفيذ محض ، وأما في مواضع الخلاف فهو ينشئ حكما ، وهو إلزام أحد القولين اللذين قيل بهما في المسألة ، ويكون إنشاؤه إخبارا خاصا عن الله تعالى في تلك الصورة من ذلك الباب قد جعل الله تعالى في مواطن الخلاف نصا ورد من قبله في خصوص تلك الصورة فإذا قضى المالكي فيمن مس ذكره بعد وضوءه بنقض وضوئه أو قضى في امرأة علق طلاقها قبل الملك بوقوع الطلاق تناول هذه الصورة الدليل الدال على عدم نقض الوضوء وعدم لزوم الطلاق عند الحنفي والشافعي ، وكان حكم المالكي بالنقض ولزوم الطلاق نصا خاصا تختص به هذه المرأة المعينة ، وهو نص من قبل الله تعالى فإن الله جعل ذلك للحكام رفعا للخصومات والمشاجرات ، وهذا النص الوارد من هذا الحكم أخص من ذلك الدليل العام فيقدم عليه ، ويصير حكم المالكي مثلا مذهبا لغيره لأن القاعدة الأصولية تقديم الخاص على العام إذا تعارضا فلذلك لا يرجع الشافعي يفتي بمقتضى دليله العام الشامل لجملة هذه القاعدة في هذه الصورة منها لأنها قد تناولها نص خاص بها مخرج لها عن مقتضى ذلك الدليل العام ، وإنما يفتي الشافعي بمقتضى دليله العام فيما عدا هذه الصورة من هذه القاعدة .

وكذلك إذا حكم الشافعي باستمرار الزوجية بينهما خرجت هذه الصورة عن دليل المالكي ، ولزمه أن يفتي بها بلزوم النكاح ودوامه ، وفي غيرها بلزوم الطلاق لأجل ما أنشأه الشافعي من الحكم تقديما للخاص على العام فهذا هو معنى الإنشاء ، وقيد في مسألة اجتهادية احترازا عن مواقع الإجماع فإن الحكم هنالك ثابت بالإجماع فيتعذر فيه الإنشاء لتعينه وثبوته إجماعا ، وقيد تتقارب مداركها احترازا من الخلاف الشاذ المبني على المدرك الضعيف فإنه لا يرفع الخلاف بل ينقض في نفسه إذا حكم بالفتوى المبنية على المدرك الضعيف ، وقيد لأجل مصالح الدنيا احترازا من العبادات كالفتوى بتحريم السباع وطهارة الأواني ، وغير ذلك مما يكون اختلاف المجتهدين فيه لا للدنيا بل للآخرة بخلاف الاختلاف في العقود والأملاك والرهون والأوقاف ونحوها مما لا يكون إلا لمصالح الدنيا .

وبهذا يظهر أن الأحكام [ ص: 92 ] الشرعية قسمان : ( الأول ) ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان ( والثاني ) ما لا يقبل إلا الفتوى ، ويظهر لك بهذا أيضا تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع هل هو من باب الفتوى أو من باب القضاء والإنشاء ، وأيضا يظهر أن إخبار الحاكم عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة فتوى ، وأما أخذه للزكاة في مواطن الخلاف فحكم وفتوى من جهة أنه تنازع بين الفقراء والأغنياء في المال الذي هو مصلحة دنيوية ، ولذلك أن تصرفات السعاة والجباة في الزكاة أحكام لا ننقضها ، وإن كانت الفتوى عندنا على خلافها ا هـ .

ووافقه على هذا الضابط العلامة التسولي في شرحه على العاصمية إلا أنه جعل القيود ثلاثة مستغنيا عن قيد الإنشاء بقيد في مسألة اجتهادية لاتحاد المخرج بكل منهما كما ترشد لذلك عبارة الأصل .

وقد تقدمت عبارة التسولي في الفرق الذي قبل هذا فلا تغفل ، وخالفه العلامة ابن فرحون في تبصرته أولا في كون غير العبادات يدخلها الحكم مطلقا كانت من مواطن الخلاف أو الإجماع فقال إن دخول الحكم في النكاح وتوابعه بالصحة ، والموجب استقلال واضح ، وكذا سائر المعاوضات من البيع والقراض والرهن والإجارة والمساقات والقسمة والشفعة والعارية الوديعة والحبس والوكالة والحوالة والحمالة والضمان ، وغير ذلك من أبواب المعاوضات كلها يدخلها الحكم بالصحة ، وبالموجب فلا نطول بالتمثيل ، ومنها الصيد فإذا تنازع اثنان في صيد ، وترافعا إلى الحاكم ، وتصادقا على فعلين صدرا منهما على الترتيب مثلا أو قامت البينة على ذلك ، وكان مقتضى مذهب الحاكم أنه للأول أو للثاني فحكم له بأنه المالك كان ذلك حكما مستقلا صحيحا ، وثابتا في العبادات ، فقسمها باعتبار دخول الحكم إلى ثلاثة أقسام :

( الأول ) ما يدخله الحكم استقلالا ، وهو الزكاة والصوم قال أما الزكاة فيدخلها الحكم استقلالا ، وذلك مثل ما لو حكم حاكم يرى جواز إخراج القيمة في الزكاة بصحة الإخراج أو بموجبه عنده ، وهو سقوط الفرض بذلك كان الحكم بالصحة ، والموجب في ذلك سواء ، وليس للساعي إذا كان ذلك الحكم مخالفا لمذهبه أن يطالب المالك بإخراج الواجب عنده سواء حكم بالصحة أو حكم بالموجب .

وأما الصوم فيدخله أيضا ، وذلك إذا صام الولي الوارث عن الميت ، وطلب الوصي أن يخرج الطعام فامتنع الوارث منه ، وترافعا إلى حاكم يرى صحة الصوم عن الميت فحكم بصحته أو بموجبه فليس للوصي أن يخرج الطعام حينئذ ، ولا أن يطالب الوارث بذلك بخلاف ما قبل الحكم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( والثاني ) ما لا يدخله الحكم استقلالا بل بطريق التضمن فقط ، وهو الطهارة والصلاة والأضحية قال ( أما الطهارة ) فلا يدخلها شيء من الحكم بالصحة ولا بالموجب استقلالا لكن يدخلها الحكم بطريق التضمن كتعليق عتق أو طلاق على طهارة ماء أو نجاسة فإذا ثبت عند الحاكم وقوع الطلاق لوجود الصفة فحكم بصحة الطلاق أو بموجب ما صدر من المعلق لوجود صفته كان ذلك متضمنا للحكم بالنجاسة أو بالطهارة .

وأما الصلاة فيدخلها الحكم بالتضمن مثل من صلى المكتوبة بوضوء خال عن النية أو مع وجود مس الذكر لاعتقاده صحة الصلاة مع ذلك فإذا حكم حاكم بعدالة من فعل ذلك ، والحاكم معتقد صحة ذلك كان حكمه متضمنا صحة وضوءه ، وعلى هذا قياس الصلاة الخالية عن قراءة الفاتحة ، وعن الطمأنينة ، ونحو ذلك ، وأما الأضحية فهي عبادة لا يدخلها الحكم استقلالا ، وقد يدخلها بطريق التضمن في التعليق كما تقدم .

( والثالث ) ما يدخله الحكم استقلالا وتضمنا ، وهو الاعتكاف والحج قال أما الاعتكاف فيدخله استقلالا في مسائل منها أنه يقضي للمكاتب على سيده بالاعتكاف اليسير ، ومنها من اعتكفت بغير إذن زوجها فله منعها ، وكذلك العبد ، وكذا لو اعتكف المديان هروبا من أداء الحق فإن الحاكم يرى فيه رأيه ، ومنها إذا وطئ المعتكف أدبه الحاكم ، ويدخله تضمنا كما تقدم في الطهارة والصلاة أي مثل ما إذا حكم حاكم بعدالة من اعتكف بدون صوم ، والحاكم معتقد صحة ذلك الاعتكاف كان حكمه بعدالته متضمنا صحة اعتكافه .

وأما الحج فيدخله استقلالا في نحو ما لو فسخ حنبلي حجه إلى عمرة حيث يسوغ عنده ذلك ، وله زوجة ليس معتقدها ذلك فامتنعت من تمكينه بعد التحلل فارتفعا إلى حاكم حنبلي فحكم عليها بصحة ما فعل زوجها الحنبلي أو بموجب ذلك عنده فهما مستويان ، ويدخله تضمنا فيما إذا حكم عليها بالتمكين لتضمنه الحكم بصحة ما فعله الزوج ، وهو نفس الموجب ا هـ .

قلت ومخالفته في غير العبادات سيتضح لك وجهها ، وأما مخالفته له في العبادة فلم يظهر وجهها ، ويخلق ما لا تعلمون ، وقد صرح بتلخيص بعض كلامه في العبادات ، وغيرها من كلام البلقيني الشافعي رحمه الله تعالى ، وبعضه من كلام أهل المذهب فلعل مما لخصه من كلام البلقيني مخالفته للأصل في العبادات فافهم .

وأما العلامة المحقق أبو القاسم بن الشاط فنظر في كلامه في مواضع : ( الأول ) قوله إن مواقع الإجماع لا يدخلها الحكم بل الإخبار حيث قال إنه لا يصح بوجه أصلا إذ لا معنى للحكم إلا التنفيذ ، ومما يوضح ذلك [ ص: 94 ] أن الحاكم لو ثبت عنده بوجه الثبوت أن لزيد عند عمرو مائة دينار فأمره أن يعطيه إياها أن ذلك الأمر لا يصح بوجه أن يكون إخبارا ، وهذا الموضع ، وما أشبهه من مواقع الإجماع قال وتفريقه بين الحكم في مواقع الإجماع وفي مواقع الخلاف بتعذر الإنشاء في الأول لتعينه وثبوته إجماعا بخلاف الثاني ساقط إذ كما أن الحكم في مواقع الإجماع ثابت بالإجماع فالحكم في مواقع الخلاف ثابت بالخلاف فعلى القول بالتصويب كلاهما حق ، وحكم الله تعالى ، وعلى القول بعدم التصويب أحدهما حق ، وحكم الله تعالى ، ولكن ثبت العذر للمكلف في ذلك ، وما أوقعه فيما وقع فيه إلا الاشتراك الذي في لفظ الحكم فإنه يقال الحكم في الطلاق المعلق على النكاح اللزوم للمقلد المالكي ، ويقال الحكم الذي حكم به الحاكم الفلاني على فلان معلق الطلاق لزوم الطلاق ، والمراد بالحكم الأول لزوم الطلاق لكل معلق للطلاق من مالكي أو مقلد لمالكي ، والمراد بالحكم الثاني لزوم الطلاق بإلزام الحاكم المحكوم عليه من مالكي أو غير مالكي ا هـ . قلت ويوافقه إطلاق ابن فرحون أن غير العبادات يدخله الحكم مطلقا كما تقدم

( الموضع الثاني ) قوله ويكون إنشاؤه إخبارا خاصا عن الله تعالى في تلك الصورة من ذلك الباب حيث قال إنه لا يصح بوجه إذ كيف يكون إنشاء ، ويكون مع ذلك خبرا ، وقد تقدم له الفرق بين الإنشاء والخبر ( الموضع الثالث ) قوله قد جعل الله تعالى إنشاءه في مواطن الخلاف نصا ورد من قبله في خصوص تلك الصورة إلى قوله فهذا معنى الإنشاء حيث قال لا كلام أشد فسادا من قوله هذا في هذا الفصل إذ كيف يكون إنشاء الحاكم الحكم في مواقع الخلاف نصا خاصا من قبل الله تعالى ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا اجتهد أحدكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد } ، وكيف يصح الخطأ فيما فيه النص من قبل الله تعالى هذا بين الخطأ بلا شك فيه ، وما تخيل هو أو غيره من ذلك لا يصح ، ولا حاجة إليه ، وإنما هو يعين في القضية المعينة أحد القولين أو الأقوال إذا اتصل به حكم الحاكم لما في ذلك من المصلحة في نفوذ الحكم وثباته ، ولما فيه من المفسدة لو لم ينفذ لا لما قاله من أنه إنشاء من الحاكم موضوع كنص خاص من قبل الله تعالى ، وحينئذ فلا يصير حكم الشافعي مثلا مذهبا لنا ولغيرنا من الأحناف والحنابلة ، ولكنا لا ننقضه ، ولا رجوع هنا للقاعدة الأصولية التي هي قاعدة الخاص والعام ، ولكن ما هنا يرجع إلى قاعدة فقهية ، وهي أن الحكم إذا [ ص: 95 ] نفذ على مذهب ما لا ينتقض ، ولا يرد ، وذلك لمصلحة الأحكام ورفع التشاجر والخصام قال وللكلام في القول الشاذ والمدرك الضعيف مجال ليس هذا موضعه ا هـ .

قال وما قاله في الاحتراز بقيد لأجل مصالح الدنيا إلى قوله لا ننقضها ، وإن كانت الفتوى عندنا على خلافها صحيح ا هـ كلام ابن الشاط ، وحاصله أن ضابط الفتيا أنها مجرد إخبار عن حكم الله تعالى المتعلق بمصالح الآخرة والدنيا يختص لزومه بالمقلد للمذهب المفتى به ، وضابط الحكم إخبار عن حكم الله المتعلق بمصالح الدنيا ، وما في معناها من إسناد العبادات فقط ، وتنفيذ له سواء كان من مواقع الإجماع أو من مواقع الخلاف بحيث لا يخص لزومه بمقلد أي مذهب من المذاهب لكن لا للقاعدة الأصولية من تقديم الخاص على العام إذا تعارضا بل للقاعدة الفقهية ، وهي أن الحكم إذا نفذ على مذهب لا ينتقض إلخ فالفتيا أعم من الحكم موقعا وأخص لزوما ، والحكم بالعكس ثم هل يترتب حكمه على قوله حكمت فإذا لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة أو سكوته لم يكن حكما ، وهو قول ابن الماجشون أو لا يتوقف فإذا لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة أو سكوته كان حكما ، وهو قول ابن القاسم قال صاحب الجواهر ما قضي به من نقل الأملاك وفسخ العقود فهو حكم فإن لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة لما رفعت إليه كامرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها فأقره ، وأجازه ثم عزل ، وجاء قاض بعده فقال عبد الملك ليس بحكم ، ولغيره فسخه .

وقال ابن القاسم هو حكم لأنه أمضاه ، والإقرار عليه كالحكم بإجازته فلا ينقض ، واختاره ابن محرز ، وقال إنه حكم في حادثة باجتهاده ، ولا فرق بين أن يكون حكمه فيها بإمضائه أو فسخه أما لو رفع إليه هذا النكاح فقال أنا لا أجيز هذا النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخ هذا النكاح بعينه فهو فتوى ، وليس بحكم أو رفع إليه حكم بشاهد ويمين فقال أنا لا أجيز الشاهد واليمين فهو فتوى ما لم يقع حكم على عين الحكم قال ولا أعلم في هذا الوجه خلافا قال ، وإن حكم بالاجتهاد فيما طريقه التحريم والتحليل ، وليس بنقل ملك لأحد الخصمان إلى الآخر ، ولا فصل خصومة بينهما ، ولا إثبات عقد ولا فسخه مثل رضاع كبير فيحكم بأنه رضاع محرم ، ويفسخ النكاح لأجله فالفسخ حكم ، والتحريم في المستقبل لا يثبت بحكمه بل هو معرض للاجتهاد أو رفعت إليه امرأة تزوجت في عدتها ففسخ نكاحها وحرمها على زوجها ففسخه حكم دون تحريمهما في المستقبل ، وحكمه [ ص: 96 ] بنجاسة ماء أو طعام أو تحريم بيع أو نكاح أو إجارة فهو فتوى ليس حكما على التأبيد ، وإنما يعتبر من ذلك ما شاهده ، وما حدث بعد ذلك فهو موكول لمن يأتي من الحكام والفقهاء ا هـ .

قال الأصل ، وقد وضعت في هذا المقصد كتابا سميته الإحكام في الفتاوى والأحكام ، وتصرف القاضي والإمام ، وفيه أربعون مسألة في هذا المعنى ، وذكرت فيه نحو ثلاثين نوعا من تصرفات الحكام ليس فيها حكم ، ولنقتصر هنا على هذا القدر في هذا الفرق ا هـ .

قلت ، وقول ابن محرز أما لو رفع إليه هذا النكاح فقال أنا لا أجيز هذا النكاح إلى قوله ، ولا أعلم في هذا الوجه خلافا هو قول ابن شاس ، وتبعه غيره ، وقال ابن عرفة الظاهر أنه حكم فليس لغيره نقضه قال التسولي على العاصمية ، وقول ابن عرفة هو الموافق لما مر لأن قوله أنا لا أجيز النكاح بغير ولي إخبار عن رأيه ومعتقده ، ولا يلزم من ذلك فسخه ، وإذا لم يلزم بقي ساكتا عنه ، والسكوت تقرير له ، وهو حكم عند ابن القاسم لا عند ابن الماجشون ا هـ .

المراد وظاهر قول الأصل أن التقريرات من الحكام ليست أحكاما فتبقى الصورة قابلة لحكم جميع تلك الأقوال المنقولة فيها أنه اختار قول ابن الماجشون ، وقال ابن الشاط ، وقول ابن القاسم هو الصحيح عندي ا هـ .

فتحصل مما ذكر في هذا الفرق ، واختاره ابن الشاط أمور :

( الأمر الأول ) الفرق بين الفتوى والحكم بأن الفتوى أعم موقعا وأخص لزوما ، والحكم بالعكس .

( الأمر الثاني ) الفرق بين ما يدخله الحكم من أبواب الفقه كالنكاح وتوابعه وسائر المعاوضات ، وما لا يدخله كالعبادات بأن ما كان متعلقا بمصالح الآخرة لا يدخله بخلاف ما كان متعلقا بمصالح الدنيا فيدخله .

( الأمر الثالث ) الفرق بين ألفاظ الحكم التي جرت بها عادة الحكام وبين ما لم تجر به عادتهم لكن على قول ابن الماجشون .

وأما على قول ابن القاسم فقال التسولي على العاصمية التي جرت بها عادتهم نحو قوله حكمت بثبوت العقد وصحته فيلزم ذلك وقفا كان العقد أو بيعا أو غيرهما ، والتي لم تجر بها نحو قوله أسفل الرسم أو على ظهره ورد علي هذا الكتاب فقبلته قبول مثله ، وألزمت العمل بموجبه أو بمضمونه فليس بحكم لاحتمال عود الضمير في موجبه ومضمونه على الكتاب ، وأن ما تضمنه من إقرار أو إنشاء ليس بزور مثلا فيكون مراده تصحيح الكتاب ، وإثبات الحجة فلمن بعده النظر فيه فإن قال حكمت بموجب الإقرار أو الوقف الذي تضمنه الكتاب فهو حكم بصحة ذلك ا هـ .

وخلاصته أن ما كان [ ص: 97 ] نصا في الحكم بصحة الإقرار والإنشاء فهو لفظ الحكم الذي جرت به عادتهم فيلزم ، وما كان محتملا لصحة مضمون الإقرار ونحوه ، وصحة مضمون الكتاب فليس بلفظ الحكم الذي جرت به عادتهم فلا يلزم بل لمن بعده النظر فيه ، والله سبحانه وتعالى أعلم

( فائدة ) قال التسولي على العاصمية علما القضاء ، والفتوى أخص من العلم بالفقه لأن متعلق الفقه كلي من حيث صدق كليته على جزئيات فحال الفقيه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط ، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه ، ولا خفاء أن العلم بها أشق وأخص ، وأيضا فقها القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما استملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها فيلغي طرديها ، ويعمل معتبرها قاله ابن عرفة فقوله ، وأيضا فقها إلخ هو بيان وجه كونهما بعد أن بينه بالمثال .

وقوله طرديها أي الأوصاف الطردية التي لا تنبني على وجودها أو فقدها ثمرة ، وهذا وجه تخطئة المفتين والقضاة لبعضهم بعضا فقد يبني القاضي والمفتي حكمه وفتواه على الأوصاف الطردية المختلفة بالنازلة ، ويغفل عن أوصافها المعتبرة ، وأصل ما ذكره ابن عرفة لابن عبد السلام ونصه وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع علم الفقه ، ولكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء ، وربما كان بعض الناس عارفا بفصل الخصام ، وإن لم يكن له باع في غير ذلك من أبواب الفقه كما أن علم الفرائض كذلك ، ولا غرابة في امتياز علم القضاء عن غيره من أنواع الفقه ، وإنما الغرابة في استعمال كليات الفقه وتطبيقها على جزئيات الوقائع ، وهو عسير فتجد الرجل يحفظ كثيرا من العلم ، ويفهم ويعلم غيره ، وإذا سئل عن واقعة ببعض العوام من مسائل الأيمان ونحوها لا يحسن الجواب عنها ، وللشيوخ في ذلك حكايات نبه ابن سهل أول كتابه على بعضها ا هـ .

وبه تعلم أن معنى قول خليل في التوضيح : وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع الفقه لكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء ، وقد يحسنها من لا باع له في الفقه ا هـ .

هو أنه من لا باع له في حفظ مسائل الفقه لكن معه من الفطنة ما يدخل به الجزئيات تحت كلياتها بخلاف غيره فهو وإن كان كثير الحفظ لمسائله لكن ليس معه من تلك الفطنة شيء كما يرشد إليه كلام ابن عبد السلام ، ولذلك نقلته برمته ، وكثير من الحمقاء اغتر بظاهر كلام التوضيح حتى قال إن القضاء صناعة يحسنه من لا شيء معه من الفقه ، وجرى ذلك على ألسنة كثير منهم ، واحتجوا بقول ابن عاصم [ ص: 98 ] ويستحب العلم فيه والورع مع كونه الحديث للفقه جمع ، وهو احتجاج ساقط قال ابن رشد ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ إنما هو نور يضعه الله حيث شاء ، والله أعلم ا هـ قلت ومن هذا تعلم حقيقة القاضي التي هي أحد أركان القضاء الستة الآتية فتنبه .




الخدمات العلمية