الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      حامد بن العباس

                                                                                      الوزير الكبير أبو الفضل الخراساني ثم العراقي ، كان من رجال العالم ، ذا شجاعة وإقدام ، ونقض وإبرام .

                                                                                      قال الصولي : تقلد أعمالا جليلة من طساسيج السواد ، ثم ضمن خراج البصرة وكور دجلة مع إشراف كسكر مدة في دولة ابن الفرات ، فكان يعمر ، ويحسن إلى الأكارين ، ويرفع المؤن حتى صار لهم كالأب ، وكثرت صدقاته ، ثم وزر وقد شاخ .

                                                                                      قلت : وكان قبل على نظر فارس ، وكان كثير الأموال والحشم ; بحيث صار له أربعمائة مملوك في السلاح ، تأمر منهم جماعة ، فعزل المقتدر ابن الفرات بحامد في سنة ست وثلاثمائة ، فقدم في أبهة عظيمة ، ودبر الأمور ، فظهر منه نقص في قوانين الوزارة وحدة ، فضموا إليه علي بن عيسى الوزير ، فمشى الحال . ولحامد أثر صالح في إهلاك حسين الحلاج يدل على إسلام وخير .

                                                                                      يقال : مولده في سنة ثلاث وعشرين ، وسمع من عثمان بن أبي شيبة ، وما حدث .

                                                                                      [ ص: 357 ] وفي سنة ثمان ضمن حامد سائر السواد ، وعسف ، وغلت الأسعار ، فثارت الغوغاء ، وهموا به ، فشد عليهم مماليكه ، فثبتوا لهم ، وعظم الخطب وقتل جماعة فاستضرت الغوغاء ، وأحرقوا الجسر ، ورجموا حامدا في الطيار .

                                                                                      وكان مع جبروته جوادا معطاء .

                                                                                      قال هاشمي كان من أوسع من رأيناه نفسا ، وأحسنهم مروءة ، وأكثرهم نعمة ، ينصب في داره عدة موائد ، ويطعم حتى العامة والخدم ، يكون نحو أربعين مائدة . رأى في دهليزه قشر باقلى ، فقال لوكيله : ما هذا ؟ قال : فعل البوابين . فسئلوا ، فقالوا : لنا جراية ولحم نؤديه إلى بيوتنا ؟ فرتب لهم . ثم رأى بعد قشورا ؛ فشاط ، وكان يسفه ، ثم رتب لهم مائدة ، وقال : لئن رأيت بعدها قشرا لأضربنك بالمقارع .

                                                                                      وقيل : وجد في مرحاض له أكياس فيها أربعمائة ألف دينار . كان يدخل للحاجة في كمه كيس فيلقيه ، فأخذوا في نكبته . ولما عزل حامد وابن عيسى وأعيد ابن الفرات عذب حامدا .

                                                                                      قال المسعودي : كان في حامد طيش ؛ كلمه إنسان ، فقلب حامد ثيابه على كتفه ، وصاح : ويلكم ! علي به . قال : ودخلت عليه أم موسى القهرمانة ، وكانت عظيمة المحل ، فخاطبته في طلب المال ، فقال : اضرطي ، والتقطي ، واحسبي لا تغلطي .

                                                                                      [ ص: 358 ] فخجلها ، وسمع المقتدر فضحك ، وأمر قيانه فغنين بذلك .

                                                                                      ولقد تجلد حامد على العذاب ، ثم نفذ إلى واسط ، فسم في بيض ، فتلف بالإسهال .

                                                                                      وقيل : تكلم الملأ بما فيه من الحدة وقلة الخبرة ، فعاتب المقتدر أبا القاسم الحواري ، وكان أشار به .

                                                                                      وقيل : أقبل حامد على مصادرة ابن الفرات ، ووقع بينه وبين شريكه ابن عيسى مشاجرات في الأموال حتى قيل : أعجب مما تراه أن وزيرين في بلاد هذا سواد بلا وزير وذا وزير بلا سواد ثم عذب حامد المحسن -ولد ابن الفرات - ، وأخذ منه ألف ألف دينار ، ثم صار أعباء الوزارة إلى ابن عيسى ، وبقي حامد كالبطال إلا من الاسم وركوب الموكب ، وبان للمقتدر ذلك ، فأفرد ابن عيسى بالأمر ، واستأذن حامد في ضمان أصبهان وغيرها ، فأذن له ، وقيل : صار الوزير عاملا لكاتبه يأمل أن يرفق في مطالبه ليستدر النفع من مكاسبه قال التنوخي : حدثني أبو عبد الله الصيرفي ، حدثني أبو علي التاجر ، قال : ركب حامد بواسط إلى بستانه ، فرأى شيخا يولول وحوله عائلة ، قد احترق بيته ، فرق له ، وقال لوكيله : أريد منك أن لا أرجع العشية إلا وداره جديدة بآلاتها ، وقماشها ، فبادر وطلب الصناع وصب الدراهم ، ففرغت العصر ، فرد [ ص: 359 ] العتمة ، فوجدها مفروغة ، وضجوا له بالدعاء ، وزاد رأس مال صاحبها خمسة آلاف درهم .

                                                                                      وقيل : إن تاجرا أخذ خبزا بدرهم ليتصدق به بواسط ، فما رأى فقيرا يعطيه ، فقال له الخباز : لا تجد أحدا ; لأن جميع الضعفاء في جراية حامد .

                                                                                      قال الصولي : وكان كثير المزاح ، سخيا ، وكان لا يرغب في استماع الشعر ، وكان إذا خولف في أمر يصيح ويحرد ، فمن داراه انتفع به .

                                                                                      قال نفطويه : سمعته يقول : قيل لبعض المجانين : في كم يتجنن الرجل؟ فقال : ذاك إلى صبيان المحلة .

                                                                                      وكان ثالث يوم من وزارته قد ناظر ابن الفرات ، وجبهه ، وأفحش له ، وجذب بلحيته ، وعذب أصحابه ، فلما انعكس الدست ، وعزل بابن الفرات ، تنمر له ابن الفرات ، ووبخه على فعاله ، فقال : إن كان ما استعملته فيكم أثمر لي خيرا فزيدوا منه ، وإن كان قبيحا وصيرني إلى التحكم في ، فالسعيد من وعظ بغيره .

                                                                                      قال الصولي : فسلم حامد إلى المحسن ، فعذبه بألوان العذاب ، وكان إذا شرب أخرجه وألبسه جلد قرد ، ويرقص فيصفع ، وفعل به ما يستحيى من ذكره ، ثم أحدر إلى واسط ، فسقي ، وصلى الناس على قبره أياما .

                                                                                      قال أحمد بن كامل : توفي بواسط ، ثم بعد أيام ابن الفرات نقل فدفن ببغداد . وسمعته يقول : ولدت سنة ثلاث وعشرين ، وأبي من الشهاردة .

                                                                                      قلت : موته كان في رمضان سنة إحدى عشرة وثلاثمائة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية