الدلالات السياسية لنتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية

31/01/2006| إسلام ويب

قال الشعب الفلسطيني كلمته، ومنح ثقته لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الانتخابات التي جرت يوم الأربعاء 25/1/2006، وأعلنت لجنة الانتخابات فوز حماس ب73مقعداً من أصل 132 مقعداً، بنسبة تصل إلى 57% من إجمالي عدد مقاعد المجلس التشريعي، وحلت حركة فتح في المرتبة الثانية بفارق كبير؛ حيث حصلت فقط على 43 مقعداً بنسبة تصل إلى 32،5% من جملة مقاعد المجلس، واقتسمت بقية القوائم بقية المقاعد، وجاءت قوائم السيار في ذيل الفائزين أو في مقدمة الخاسرين؛ حيث حصلت قائمة الطريق الثالث على مقعدين فقط، وقائمة أبو علي مصطفى على ثلاثة مقاعد، وقائمة البديل على مقعدين، وفلسطين المستقلة على مقعدين، بينما حصل المستقلون على أربعة مقاعد،
وقبل أن نقدم قراءة أولية في هذه النتائج نود أن نؤكد على ثلاثة حقائق أجمع عليها المراقبون المحليون والدوليون، وفي مقدمتهم اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات، وهذه الحقائق هي:
1ـ أن العملية الانتخابية قد جرت بنزاهة وشفافية، ولم تحدث خروقات جسيمة تشوب هذه النزاهة، علماً بأن جميع الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس، هي فصائل تحمل السلاح في إطار كفاحها من أجل التحرر الوطني ضد المحتل الصهيوني المغتصب، وكان كثيرون يراهنون على أن السلاح الفلسطيني سوف يستعمل في المعركة الانتخابية، وجاءت النتائج في نهاية اليوم الانتخابي لتذهل العالم كله؛ حيث لم تقع حادثة عنف واحدة، ومرت العملية بسلام شهد به الجميع.
2ـ أن جميع الفصائل الفلسطينية احترمت ميثاق الشرف الأخلاقي الذي وقعت عليه قبل بدء العملية الانتخابية، والتزمت القانون والنظام، ومارست حقها في الدعاية وحشد الأنصار خلف برامجها الانتخابية بقدر ما استطاعت في إطار هامش الحرية المتاح في ظل الاحتلال، وفي ظل العراقيل التي حاولت سلطة الاحتلال وضعها في طريق العملية الانتخابية، ولم تظهر شكاوى من التضييق أو عدم إتاحة الفرصة لعرض البرامج والأفكار على الجمهور الفلسطيني، اللهم إلا ضد سلطات الاحتلال التي حاولت شق الصف الفلسطيني، وحرمان مرشحي حركة حماس من ممارسة حقهم في الدعاية وبخاصة في القدس الشريف، وبالمناسبة فقد فاز قائمة الإصلاح والتغيير (حماس) بأربعة مقاعد من أصل ستة مقاعد في دائرة القدس.
3ـ أنه بالرغم من خسارة حركة فتح وانتقالها من موقع السلطة إلى موقع المعارضة، إلا أنه يسجل لها أنها كانت على مستوى المسئولية عندما لم تستجب للضغوطات الإسرائيلية والدولية (الأمريكية والأوربية) لمنع حماس من المشاركة في الانتخابات، وأصرت على موقفها بضرورة السماح لجميع الفصائل والقوى السياسية بالمشاركة، وكانت على مستوى المسئولية أيضاً عندما أعلنت قبولها لنتائج الانتخابات واحترامها لرأي الشعب الفلسطيني، ضاربة بذلك مثالا يحتذي في السلوك الديمقراطي المتحضر الذي يجب أن تقتدي به كثير من الأنظمة والأحزاب الحاكمة في المنطقة، التي ليست في وضع أسوأ ، ولا تمر بظروف استثنائية معقدة كالتي يمر بها الشعب الفلسطيني وسلطته في ظل الاحتلال الإسرائيلي والضغوطات الإقليمية والعالمية.
والسؤال الآن ما الذي تعنيه نتائج الانتخابات الفلسطينية في ضوء تلك الحقائق التي ذكرناها وهي محل إجماع؟
هذه النتائج تكشف لنا في المحل الأول عن "الإرادة العامة" للشعب الفلسطيني، وتقول إنه عندما تتاح لهذه الإرادة فرصة حقيقية لحرية التعبير فإنها تنحاز لخياراتها الوطنية، وتعلن تمسكها بثوابتها النضالية من أجل استعادة الحقوق المسلوبة، بالرغم من الظروف العصيبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وبالرغم من قسوة الأوضاع المعيشية، وتردي الأحوال الاقتصادية، بالرغم من كل ذلك فإن القضية الوطنية لا تزال تحتل المقام الأول لدى الشعب الفلسطيني، ويخطئ من يظن أن قسوة الظروف الاقتصادية يمكن أن تبدل الأولويات الوطنية الكبرى، أو أن تزحزحها عن مكانتها في ضمير الغالبية الكبرى من أبناء الشعب، وقد كان هناك من يراهن على كسب أصوات الفلسطينيين بإغراء المساعدات الأجنبية (الأوربية والأمريكية تحديداً)، ولكن الشعب أدار ظهره لهذه الإغراءات واختار الاختيار الوطني الصحيح، اختار الذين يقولون له نحن متمسكون بكامل حقوقنا الوطنية، بفلسطين التاريخية، بالقدس وبحقوق اللاجئين، والأهم من ذلك أنه اختار من يدعوه للتضحية والاستشهاد في سبيل نيل هذه الحقوق، وأعرض عمن يمنيه بزيادة حصته من المساعدات والمعونات الأجنبية، ويخوفه من نقصها وزيادة حدة الأزمات الاقتصادية، وهذا الاختيار يكشف أيضاً عن المعدن الأصيل للشعب الفلسطيني، وهو المعدن نفسه الذي يمكن أن تكشف عنه أية انتخابات حرة ونزيهة في أي بلد عربي آخر.
هذه النتائج تقول لنا أيضاً: إن الشعب الفلسطيني قد بلغ درجة عالية من النضج السياسي، وإنه لم يعد يثق في إمكانية استعادة حقوقه المسلوبة عن طريق المفاوضات والتنازلات والاستسلام لإرادة عدوه، وأنه يريد على العكس من ذلك سلطة وطنية قوية في مواقفها، تستطيع مجابهة التحديات التي يفرضها العدو، ولا يستجدي حقوقه، ولا ينحني للإغراءات، ولا ترهبه التهديدات، هذه النتائج تقول: إن مفهوم "القوة" لا يعني فقط قوة السلطة، وقوة السلاح، وإنما يعني قبل ذلك قوة الإيمان بالحق، وقوة الإرادة النضالية من أجل استعادته، وقوة الروح والأخلاق، وقوة العزيمة التي لا تلين، ولو استمعت حماس لنصائح المتخاذلين إبان اشتعال الانتفاضة من أن موازين القوة ليست في صالحها وكيف لها أن تجابه القوة العسكرية الإسرائيلية التي تفوق قوة كل الدول العربية مجتمعة، لو استمعت لمثل هذه النصائح لما حققت هذا النصر الانتخابي الذي منحه لها الشعب الفلسطيني بإرادته الحرة.
هذه النتائج تقول أيضاً : إن التغيير سنة ماضية في المجتمعات، وإن التأبيد في الحكم والسلطة أمر ضد حركة التاريخ، وعكس مسار التطور الاجتماعي والسياسي، وإن للتغيير قواعده ومقدماته وقوانينه، وأن الذي يلتزم هذه القواعد والمقدمات والقوانين لابد أن يصل إلى هكذا نتائج، وإن الذي يخالفها لابد أن يحصد ما اقترفت يداه، وعندما تقوم حماس بتشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة فإنها تكون قد وضعت النظام السياسي الفلسطيني، والقضية الفلسطينية برمتها على أعتاب مرحلة جديدة تماماً، تتطلب أول ما تتطلب تطبيق برامج " الإصلاح" التي وعدت بها الناخبين، وهذا ما سيكشف عنه السلوك السياسي لحماس وهي في موقع السلطة في المرحلة المقبلة، وستكشف عنه كذلك مواقف القوى السياسية الأخرى وفي مقدمتها حركة فتح التي لا تزال تمثل القوة الثانية على الساحة الفلسطينية على أية حال.
تنقلنا النقطة السابقة مباشرة إلى نظريات تفسير نتائج الانتخابات، والإجابة على سؤال رئيس هو: لماذا فازت حماس وتراجعت فتح؟، إن هذا السؤال أصبح من الأسئلة التقليدية التي تثار عندما تحقق الحركة الإسلامية نصراً انتخابياً في أي بلد عربي، حدث هذا في الأردن عندما فازت جبهة العمل الإسلامي، وفي الكويت عندما فاز مرشحو جمعية الإصلاح الإسلامية، وفي اليمن عندما فاز حزب الإصلاح، وفي المغرب بفوز حزب العدالة والتنمية، وأخيراً في مصر عندما فاز مرشحو الإخوان المسلمين، ونحن الآن أمام حالة جديدة ومثالية بالنسبة لفوز حركة حماس في فلسطين، وذلك فيما يتعلق باختبار نظريات التفسير والإجابات التي تقدم عادة على التساؤل الذي أشرنا إليه.
هناك ثلاث نظريات تسعى لتفسير فوز النجاح الذي تحققه الحركة الإسلامية كلما دخلت في انتخابات ذات مصداقية وقدر معقول من النزاهة والشفافية، وتتردد هذه النظريات في كل مرة يحدث الفوز في جميع الحالات بالبلدان العربية، ومنها حالتنا الأخيرة مع حركة حماس:
النظرية الأولى هي نظرية "التصويت العقابي"، ومفادها أن فوز حماس جاء نتيجة أصوات أرادت أن تعاقب السلطة الفلسطينية وحركة فتح على فشلها في تحقيق آمال الشعب الفلسطيني خلال المرحلة السابقة، وبعبارة أخرى تقول هذه النظرية: إن الشعب الفلسطيني أعطى أصواته ليس حباً في حماس وإنما كرها في فتح، والمعنى نفسه سمعناه في نفس الدوائر السياسية والإعلامية عندما فاز مرشحو الإخوان في الانتخابات النيابية المصرية الأخيرة،
وهذه النظرية متهافتة، وليس لها منطق يمكن الاستناد إليه؛ إذ لو صح القول بأن التصويت للناجح هو عقاب للخاسر فالسؤال المنطقي هو: ولماذا اختار الناخب أن يعاقب الخاسر بهذا الناجح بالذات؟ لماذا اختار حماس ولم يختر الطريق الثالث، أو قائمة البديل، أو غيرها من القوائم والمرشحين المستقلين؟ أو لماذا لم ينوع في أدوات العقاب ليذيق الذي يعاقبه العذاب ألواناً؛ فيعاقبه جزئياً بحماس وجزئياً بهذه القائمة، وجزئياً بتلك القائمة؟، ما الذي يفسر تركيز العقاب بهذه الأداة على هذا النحو الذي كشفت عنه نتائج الانتخابات؟، يقولون: إن الناخب الذي يعاقب ـ حسب منطقهم ـ يميل إلى تأييد القوة التي تتمتع بفرصة أكبر للفوز، وإن الناخب عادة يميل إلى الانحياز لمن هو أقرب للنجاح، وهذا القول غير صحيح إذ تكشف بحوث وقياسات الرأي العام التي أجريت في عديد من مراكز الاستطلاعات أن السلوك الانتخابي عادة ما ينقسم نصفين: نصف يتعاطف من القوة السياسية التي تبدو ضعيفة وعلى وشك الخسارة، ونصف مع القوة السياسية التي تبدو قوية، وبالتالي فإن هذا العامل هو محايد في أحسن الحالات إذا سلمنا جدلاً بمنطق نظرية التصويت العقابي، ومن ثم لا يصلح للتفسير، ولا يقدم إجابة مقنعة على السؤال: لماذا خسر هذا وكسب غيره؟
النظرية الثانية هي نظرية "القلة المنظمة"، أو" القوة المنظمة"، ومفادها أن الأحزاب والقوى الخاسرة، وهي فتح في الحالة الفلسطينية التي نتحدث عنها تعاني من التفكك، والانقسامات، وضعف التنظيم الداخلي، أما الحركة الإسلامية، وهي حماس في حالتنا هذه فإنها ما فازت إلا لأنها أكثر تنظيماً، وأقوى تماسكاً، نسبياً مقارنة بفتح، ومن ثم كانت هي الأقدر على حشد وتعبئة الجماهير خلفها، وإحراز النجاح، ويؤكد أصحاب هذه النظرية على أن ضعف الخصم هو العامل الأكبر والحاسم في نجاح الطرف الآخر، وهو هنا حركة حماس.
ولا تقل هذه النظرية ضعفاً وتهافتاً عن النظرية السابقة؛ إذ لو صح أن ضعف فتح ـ وينطبق ذلك على أي حزب حاكم آخر في أي بلد عربي كما قلنا ـ هو سبب انتصار حماس، فالسؤال المنطقي هو: ولماذا ضعفت فتح؟ وإذا كان سر النجاح هو في قوة التنظيم: فلماذا لم تسع قيادات فتح إلى تفعيل كلمة السر هذه وتحكم تنظيمها وتقوي ذاتها وهي في مواقع السلطة وتحت يدها من الموارد ما هو أكبر بكثير مما هو في يد حماس؟ ثم أليس من المنطقي أن الذي يستطيع الاستفادة من ضعف خصمه المنافس وينجح في ذلك يكون قوياً بالدرجة التي توصله إلى النجاح؟
إن الفكرة المركزية التي تستند إليها النظريتان السابقتان في تفسير نجاح حماس في الانتخابات ـ وغيرها من القوى والحركات الإسلامية ـ هي أن نجاحها يرجع إلى عوامل خارجة عنها وليس نتيجة لعوامل ذاتية وقدرات خاصة تمتلكها، هو بفضل فشل الآخرين أكثر مما هو بفعل كدحها الذاتي، كأنهم يريدون القول: إن هذا التلميذ نجح في الامتحان إما لأن الامتحان جاء سهلاً، أو لأن تلميذا آخر لم يذاكر فرسب ونجح تلميذ آخر، هكذا دون إشارة إلى الجهد الذي بذله من نجح، ودون الإشارة إلى الأعمال والإنجازات التي حققها، ودون الحديث عن الخطاب الذي توجه به إلى الجماهير وسعى إلى حشدها خلفه، ومن ثم فإن هاتين النظريتين تندرجان في إطار عملية تبرير، بالقدر الذي تبتعدان فيه عن التفسير العلمي المبني على منطق متماسك.
أما النظرية الثالثة، وهي التي نتبناها ونعتقد أنها ذات مقدرة تفسيرية أعلى، وذات مصداقية أكبر، فمؤداها أن فوز حركة حماس جاء في المقام الأول وقبل كل شيء نتيجة لعوامل ذاتية وعناصر قوة امتلكتها الحركة، أول هذه العوامل:
 البرنامج السياسي الواضح الذي أكد على التمسك بالثوابت الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني كاملة غير منقوصة.
الثاني هو الخطاب الإعلامي والثقافي الواضح الذي لامس ضمير الشعب وكسب قلبه وعقله معاً.
الثالث هو العمل المتواصل والتضحيات الهائلة التي قدمتها الحركة في ميادين المقاومة المسلحة وقوافل الاستشهاديين التي ضمت قيادات الصف الأول منها وعلى رأسهم مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين.
الرابع هو قوة التنظيم الذاتي للحركة، واكتسابها للشرعية الاجتماعية قبل الشرعية السياسية عبر سلسلة من المشروعات الخدمية والتعليمية والصحية، ولكل هذه العوامل مع افتقار الفصائل الأخرى لهذه العوامل الذاتية التي توافرت لحماس، إضافة إلى حالة الضعف والفساد والفشل والتشتت التي عانت منها الفصائل الأخرى ومنها فتح، والتي لا شك أنها أسهمت جزئياً في تعزيز نجاح حماس، كما أسهمت عوامل مشابهة في تعزيز فوز القوى الإسلامية في بلدان أخرى مثل مصر وغيرها.
السؤال المهم الآن هو: إلى أين ستتجه مسارات الأحداث على الساحة الفلسطينية؟ وما شكل الخريطة السياسية في ظل هذا التحول الجديد؟ وكيف ستتصرف حماس في ضوء المعطيات الواقعية التي ستجد نفسها فيها محلياً وإقليمياً ودولياً؟ وكيف ستستقبل القوى والأطراف المختلفة هذا الفوز الكبير؟، هذه الأسئلة تحتاج إلى مقال آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصريون

www.islamweb.net