لا شك أن التطور التكنولوجي الأكبر الذي يعيد صوغ حياة الناس في الآونة الأخيرة هو ظهور شبكة الإنترنت التي أحدثت ثورة حقيقية في نظم الإدارة والعمل الحياة.. وإذا كان لكل تقدم ضريبته، فإن ضريبة الإنترنت لم تتأخر، بل جاءت مواكبة لظهور الشبكة، ألا وهو جرائم الإنترنت، وهي جرائم تختلف في معناها ومبناها عما نعرفه من الجرائم الأخرى. فالجاني لا يحمل مسدسًا ولا يسطو على مبنى ولا يحتاج لأن يغتال الحراس. فهو قابع في بيته في مكان قصي من العالم وبكبسة زر على (الماوس) يستطيع أن يدخل إلى الشبكة التي يريدها، سواء كانت لوزارة أو بنك أو مؤسسة، ويفعل فيها ما يشاء، أما الضحايا من الأفراد فالإيقاع بهم أسهل، ذلك أن المؤسسات والوزارات غالبًا ما تتبع نظم أمن عصية على الاختراق تحتاج إلى محترفين، بعكس الأفراد.
في البداية سألنا الدكتور زكريا الزَّامل عن المقصود بجرائم الإنترنت فقال: هي امتداد لما عرف بجرائم الحاسوب، والمقصود بجرائم الحاسوب كل عمل إجرامي (غير قانوني) يرتكب باستخدام الحاسوب كأداة أساسية. ودور الحاسوب في تلك الجرائم قد يكون هدفًا للجريمة أو أداة لها.
وعندما ظهرت شبكة الإنترنت ودخلت جميع المجالات كالحاسوب بدءًا من الاستعمال الفردي ثم المؤسسي والحكومي كوسيلة مساعدة في تسهيل حياة الناس اليومية، انتقلت جرائم الحاسوب لتدخل فضاء الإنترنت، فظهر ما عرف بجرائم الإنترنت كأداة أساسية، وكما هو الحال في جرائم الحاسوب كذلك جرائم الإنترنت قد تكون الإنترنت هدفًا للجريمة أو أداة لها.
ويقسّم المهندس حمد بن عبد العزيز السليم – مدير مركز أمن المعلومات بوحدة خدمات الإنترنت في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية – جرائم الإنترنت ضمن فئات متعددة تحكمها بعض الأسس والمعايير لعدة معطيات أبرزها:
تحدٍّ جديد:
يكاد يكون هناك تسليم من الخبراء على أن جرائم الإنترنت تمثل تحديًا جديدًا في عالم الجريمة، ويسرد الدكتور زكريا الزامل الأسباب التي تضفي على هذه الجرائم تلك الصفة:
ومما يأكد خطورة جرائم الإنترنت – والكلام ما زال على لسان الدكتور زكريا الزامل – أنها في كثير من الأحيان لا تتطلب خبرة فائقة، ولهذا فكثير منها يقع في فئة الشباب.
كما أن الخسائر في تلك الجرائم تشمل كل شيء بدءًا بالأموال وانتهاءً بالأرواح:
في بنك لويدز في أمستردام قام شاب عمره 26 سنة بتحويل مبلغ 8.4 مليون دولار عبر نظام الحوالات العالمية من فرع هذا البنك في نيويورك إلى حساب في بنك آخر في سويسرا. واعتقلت الشرطة في إحدى مدن ولاية أوريجن الأمريكية شابًا عاطلاً عن العمل عمره 26 عامًا استخدم أحد مواقع الدردشة على الإنترنت لتنظيم انتحار جماعي فيما يسمى بعيد الحب هذا العام لمن لم يوفق في حياته العاطفية.
كما كان اختراع الإنترنت خطورة جبارة في مسيرة تقدم البشرية دفع البعض إلى أن يعتبره أهم اختراع في القرن الأخير، فإن جرائم الإنترنت خطت هي الأخرى بعالم الجريمة إلى آفاق رحبة، فالسطو على بنك مثلاً لم يعد يتطلب تلك الإجراءات والاستعدادات التي تشاهد في أفلام الجريمة، ولم يعد الأمر بحاجة إلى عصابة كاملة، بل إلى فرد واحد قد لا يحتاج الأمر منه أن يغادر بيته. دراسة كندية أجرت مقارنة بين السطو المسلح والسطو الإلكتروني على البنوك؛ فاكتشفت أن معدل الخسارة الناجمة عن جريمة السطو المسلح على البنك يصل إلى 3200 دولار للحالة الواحدة، ترتفع إلى 22500 دولار في حالة السطو عبر الغش والخداع، وتقفز إلى 430 ألف دولار في حالة السطو الإلكتروني. ليس هذا فحسب بل تنخفض معدلات ضبط الجناة من 95% في حالة السطو المسلح إلى 5% في حالة السطو الإلكتروني. أما ملاحقة الجناة قضائيًا فلا تتجاوز 1% من حالات السطو الإلكتروني.
إذن نحن أمام ملامح جديدة لجرائم جديدة في عصر جديد، جرائم تختلف عما عهدناه من قبل، جرائم يسهل إخفاء معالمها بالقدر الذي يصعب تتبع مرتكبيها فهم يسبحون بين مليار مستخدم لشبكة الإنترنت لا تقف دونهم حدود دولية ولا يمنعهم بعد المكان ولا اختلاف المواقيت من ارتكاب جرائمهم، وهم ذوو حرفية عالية تمكنهم من التغلب على كل إجراءات الحماية الإلكترونية.
لغة الأرقام تؤكد أننا أمام تحدٍّ خطير، فخسائر الشركات الصناعية والتجارية في بريطانيا من جرائم الإنترنت تجاوزت 1.1 مليار جنيه استرليني. أما مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية (FBI) فقدر حجم الخسائر الناجمة عن الجرائم الإلكترونية في أمريكا بحوالي 10 مليارات دولار سنويًا عام 1998م، ارتفعت إلى 14 مليار عام 2004م. والمثير أن 17% فقط من الضحايا يبلِّغون عن هذه الجرائم التي يصل معدلها إلى ألف جريمة يوميًا. معهد أمن المعلومات أجرى دراسة مسحية بالتعاون مع مكتب التحقيقات الفيدرالية على 538 مؤسسة وشركة أمريكية فتبين أن 85% منها تعرضت لاختراقات إلكترونية، 70% منها جاءت عبر الإنترنت، و65% منها ألحقت خسائر مادية بالمؤسسة. ولم يتمكن سوى 35% من الشركات من حصر هذه الخسائر. لم يكن غريبًا والأمر كذلك أن يطلب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلنتون في يناير عام 2000م من الكونجرس تخصيص 2 مليار دولار لمكافحة جرائم الإنترنت.
تتعدد وتختلف نماذج جرائم الإنترنت بتعدد استخدامات الحاسوب وتشعب مناحي الحياة ونشاطات المجتمع: روبر مورس شاب أمريكي يبلغ من العمر 23 عامًا أطلق فيروسًا باسمه دمّر 6 آلاف نظام عبر الإنترنت بينها أجهزة عدد من المؤسسات الحكومية بخسائر بلغت مئة مليون دولار، عوقب على إثرها بالسجن لمدة 3 سنوات.
أما تيموثي ألن ليود (35 عامًا) فهو مصمم ومبرمج فصل من عمله، فما كان منه إلا أن أطلق قنبلة إلكترونية ألغت كافة التصاميم وبرامج الإنتاج لأحد أكبر مصانع التقنية العالية في نيوجرسي التي تعمل لحساب وكالة الفضاء NASA والبحرية الأمريكية.
أما س.ع. فقد تزعم عصابة من "الهاكرز" بمدينة الإسكندرية تضم خمسة أشخاص للاستيلاء على حسابات بطاقات "فيز" الخاصة بعملاء البنوك، لكن الشاب الفرنسي جان كلود كان أكثر نبلاً من أفراد العصابة المصرية، فقد استطاع تصميم بطاقة صرف آلي وسحب بها مبالغ من أحد البنوك ثم ذهب إلى البنك وأعاد إليه المبالغ وأخبرهم أنه فعل ذلك ليؤكد لهم أن نظام الحماية في بطاقات الصرف الخاصة بالبنك ضعيف ويمكن اختراقه، إلا أن ذلك لم يمنع الشرطة الفرنسية من إلقاء القبض عليه ومحاكمته. الأمر نفسه فعلته مجموعة من الشباب الأمريكي أطلقوا على أنفسهم "الجحيم العالمي" إذ تمكنوا من اختراق مواقع البيت الأبيض، والمباحث الفيدرالية، والجيش، ووزارة الداخلية؛ لكنهم لم يخربوا تلك المواقع، بل اقتصر دورهم على إثبات ضعف نظام الحماية في تلك المواقع، إلا أنهم حوكموا أيضًا. وقبل 5 سنوات ألقت السلطات الإسرائيلية القبض على شابين شقيقين ضريرين من الفلسطينيين ووجهت إليهما تهمة اختراق مواقع وزارة الدفاع الإسرائيلية.
الجرائم السابقة ذات الطابع الاقتصادي أو السياسي تلقى اهتمامًا واسعًا من المؤسسات المعنية بمكافحة جرائم الإنترنت، وهو اهتمام يفوق بمراحل الجرائم الأخلاقية على الإنترنت التي غدت من أكبر مسوقي تجارة الجنس في العالم. ومن سوء الحظ أن مكافحة الجرائم الجنسية على الإنترنت كثيرًا ما تصطدم بعوائق تشريعية.
في مصر مثلاً قامت شرطة الآداب بمراقبة 10 آلاف شاذ من المتغربين يعلنون عن عناوينهم على الإنترنت ويبدون استعدادهم لممارسة الفجور، لكن الشرطة لم تستطع إحالتهم إلى المحاكم لأنها لم تستطع إصدار إذن من النيابة لمعاقبتهم؛ لأنهم يمارسون فعلتهم الشنعاء من مواقع خاصة. أما تنظيم الشواذ الذي ألقي عليه القبض بالفعل فقد تجاوزوا الدعوة والتعارف على الإنترنت إلى الالتقاء الفعلي وهو ما مكّن الشرطة من إحالتهم إلى القضاء.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد عطلت المحكمة العليا تطبيق قانون كان يستهدف حماية الأطفال من المواد الإباحية على الإنترنت رغم تزايد حالات استدراج الأطفال من خلال الشبكة والاعتداء الجنسي عليهم، القانون كان يفرض غرامة قدرها 5 ألف دولار على من ينشر مواد مؤذية للقصر على صفحات الإنترنت ويجعل تلك المواد في متناولهم بشكل يسير، لكن المحكمة اعتبرته مقيدًا لضمانات حرية التعبير. الأمر نفسه حدث في هونج كونج حيث فشلت سلطات التشريع في وضع حد لترويج مواد إباحية للأطفال على شبكة الإنترنت ورفضت مشروع قانون يقضي بالحبس على كل من يثبت امتلاكه مواد إباحية تتعلق بالأطفال، وقال المشرعون: إنهم يخشون أن تتخذ السلطات ذلك القانون ذريعة لمزيد من إحكام قبضتها على الإنترنت. وعلى العكس من أمريكا وهونج كونج نجح المركز الاسترالي لمكافحة جرائم الإنترنت في توقيف وتفتيش 40 متهمًا بجرائم الاغتصاب والاستغلال الجنسي وتنظيم السياحة الجنسية وتوزيع أفلام دعارة باستخدام شبكة الإنترنت.
نظرًا لزيادة عدد جرائم الإنترنت وارتفاع خسائرها سعت بعض الأبحاث إلى الوقوف على دوافع مرتكبي هذه الجرائم، وجاء السعي إلى الكسب المادي على رأس هذه الأغراض بنسبة 43%. كما تبين أن جرائم الإنترنت أصبحت وسيلة جديدة من وسائل الصراع بين العاملين وأرباب العمل، بل هي وسيلة أكثر سهولة وأشد فاعلية، فالإضراب الذي ينظمه آلاف العاملين لن يلحق أذى بالشركة بالقدر الذي يلحقه إدخال أحد العاملين لفيروس يدمر برامج وتصاميم تلك الشركة. أما (الهاكرز) فتركز معظم دوافعهم فيما يرتكبون من جرائم على إثبات قدراتهم وتأكيد تفوقهم على برامج الحماية، بل ويدخلون في سباق مع كل تقنية مستحدثة للتفوق عليها.
على الرغم من أن دولاً كثيرة – وبالأخص الغربية منها – وضعت أنظمة وتشريعات للحد من جرائم الحاسوب والإنترنت إلا أن تلك التشريعات تواجه عقبات كثيرة تحد من فاعليتها، وهي مشكلة تواجه كل وزارات العدل في دول العالم، وهذا يعود لعدة أسباب، من أهمها أن الإنترنت ليست ملكًا لأحد، وجرائم الإنترنت قد تحدث في دولة والفاعل في دولة أخرى، كما أن التشريعات والقوانين تختلف من بلد لآخر، وقد اهتمت البلدان الغربية بإنشاء أقسام خاصة بمكافحة جرائم الإنترنت، بل إنها خطت خطوة إلى الأمام وذلك بإنشاء مراكز لاستقبال ضحايا تلك الجرائم، ففي أمريكا أنشئ مركز شكاوى التزوير والغش على الإنترنت، وذلك بإشراف وكالة التحقيقات الفيدرالية.
وفي القاهرة كشفت دراسة أعدها رئيس النيابة محمد الألفي وحصل بها على درجة الماجستير عن وجود فراغ تشريعي إزاء جرائم الإنترنت، أي عدم وجود نصوص قانونية تعالج هذه الجرائم، ودعت الدراستان إلى إطلاق "شرطة الإنترنت" كجهة مسؤولة عن مكافحة جرائم الإنترنت.
لكن الدكتور أحمد الحمداوي المتخصص في علم النفس الإجرامي بالرباط لا يعوّل كثيرًا على التشريعات في مكافحة جرائم الإنترنت، ويعتقد أن التشريعات والنصوص القانونية لا تكتسب أهمية في نفسها، بل في تطبيقها، ويقول: "الكثير من الدول الغربية تتوفر فيها ترسانة تشريعية كبيرة، لكن المهم هو تفعيل هذه النصوص، فالتعديلات الأخيرة التي أدخلت على القانون الجنائي المغربي مثلاً حملت بعض الإشارات الطفيفة المرتبطة بجرائم الإنترنت؛ لكنها تبقى دون التشريعات التي تتوفر لدى الدول الغربية.
كيف تمنع المجرمين من الولوج إلى حاسوبك، وكيف تتعرف على أصحاب النوايا الإجرامية على شبكة النت فتحذرهم؟
يبدو أن المسألة ليست بالسهولة التي تتصورها، فهذا أمر صعب وهو أحد أسباب خطورة جرائم الإنترنت كما يقول الدكتور زكريا الزامل، ذلك أن المخربين يظهرون بصورة الناصح، أو المرشد مما يتسبب في خداع الضحية، كما أنه لا يمكن التعرف على هوية المخرب، فقد يظهر بهوية مزيفة ويمكن أن يكون التخريب على شكل برامج يتم تحميلها من الإنترنت وتحوي فيروسات، كما يمكن أن تكون على شكل مرفقات مع البريد الإلكتروني.
المخربون على الإنترنت يختلفون من جهة الخطورة؛ فمنهم المستخدم العادي الذي يستطيع الوصول لأغراض تخريبية، ومنهم الهاوي الذي يتعلم بعض المهارات على حساب الآخرين، ومنهم المحترف الذي يقصد التخريب، ومنهم العصابات المنظمة. ولهذا فمن أنجع الوسائل أن يتم التعامل مع الأشخاص على الإنترنت بحذر شديد، وألا يُتعامل إلا مع أشخاص أو مواقع معروفة، بحيث لا يتم تحميل ملفات إلا من المواقع الموثوقة، ويمكن الاستفادة من تقنية التوقيع الرقمي والتي تعطى للمواقع عبر شركات كثيرة، حيث أن المواقع المعروفة لها تواقيع رقمية معترف بها. وهذه التقنية تدعمها برامج تشغيل الحاسبات المنتشرة في العالم مثل نظام التشغيل ويندوز من شركة مايكروسوفت، ولهذا يتم تحذيرك إذا كان الموقع غير معروف (ليس له توقيع رقمي معروف أو معترف به)، وأيضًا ينبغي التعامل بحذر مع رسائل البريد الإلكتروني بعدم فتح أي بريد يحوي مرفقات حتى لو كان من شخص يعرفه، إلا إذا كان المستخدم يتوقع وصول ذلك البريد، وذلك لاحتمال احتوائها على فيروسات أو ملفات تجسس.
كثير من جرائم الإنترنت قد لا تهم كثيرًا من الآباء والأمهات الذين لا يعيرون اهتمامًا للسطو الإلكتروني على بنك أو تدمير بيانات شركة، لكنهم حتمًا سيفزعون إذا عرفوا أنهم ليسوا بعيدين عن هذه الجرائم وبالأخص فلذات أكبادهم. سألنا الدكتور زكريا الزامل: كيف نحمي أبناءنا من أن يصبحوا ضحايا لجرائم الإنترنت؟
فأجاب: هناك محاولات وجهود لتوفير بيئة نظيفة للإنترنت، وذلك من جهات حكومية وخاصة؛ كجهود مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في ترشيح المواقع ووضع قوائم سوداء تستخدم لحجب المواقع السيئة. وجهود أخرى في ترشيح المواقع وبناء قائمة نظيفة من المواقع الصالحة لطلاب المدارس، وذلك باستخدام ما يسمى بالقوائم البيضاء التي تحدد مجموعة من المواقع يُسمح بتصفحها وما عدا ذلك لا يسمح به.
كذلك يوجد الكثير من التقنيات وبرامج الحماية التي تساعد في توفير قدر من الحماية من جرائم الإنترنت وهو الجانب التقني، وهذا لا يكفي للحماية من مخاطر الاستخدام السيئ للإنترنت، فعلى سبيل المثال يمكن أن يستخدم المخرب بعض المواقع العامة أو البريد الإلكتروني لجر الضحية إلى مراده.
ـــــــــــ
جريدة الحياة