تجديد الخطاب الديني.. ضرورة فهم المصطلح ومقاصده

29/12/2009| إسلام ويب

منذ حوالي عامين أُطلق في بلد عربي كبير دعوة رسمية للعمل علي تجديد الخطاب الديني وتحولت الدعوة إلي جملة جارفة تجاوزت حدود هذا البلد ودخلت إلي الحديث فيها تيارات فكرية عديدة ليست كلها من المرتبطين بالفكر الديني بل وليست كلها من المؤيدين له أو المتعاطفين معه.

وكان اصطلاح الخطاب جديداً إلي حد كبير في إقرانه بالدين وكان بالتأكيد جديدا تماماً في استعماله من جانب مسئول رسمي عالي المستوي. فهو يعود كما يعرف المهتمون بالفكر إلي الميدان الفلسفي وبلغ ذروة التحديد في تعريفه واستخدامه عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكوه ومن ثم ذاع استعماله في ميادين متعددة إلي أن وصل الأمر بالاستعمال المبتذل أو غير المحدد الملامح في الكتابات الصحفية والأغراض السياسية.

والخطاب عند فوكوه أو الاستعمال الفلسفي المدقق والمتعمق يعني بشكل عام ميدان متكامل من ميادين أو مجالات الفكر أو العلم أو الدرس أو التدبر العقلي بما ينطوي عليه من مصطلحات ومفاهيم وطرق للتفكير ومنظور عام وأهداف وأفاق ومضامين وأسس ومبادئ نظرية وأساليب وإجراءات عملية وسلوكية.

وكان لميشيل فوكوه فلسفة معروفه في تناول الخطاب وتحليله ودراسة تعاقب وتفاعل أنواع الخطاب وصراعها وقوانين والبقاء فيها وأوضاعها الاجتماعية وقبل كل شيء علاقات القوة التي تحكمها وتفرض عليها قوانينها .

غير أن مصطلح الخطاب الديني المستعمل الآن بكثرة علي الساحة العربية ثم الإسلامية يختلف كثيرا عن المصطلح الأصلي ولا يعود الاختلاف إلي إدخال وصف "الدين" عليه؛ فمصطلح الخطاب نفسه وبمفرده يستعمل بشكل مبهم وغير محدد وربما عن عمد ليسهل استخدامه لأداء مهام عديدة ليست كلها ذات طابع فكري كما قد يفترض بل تتسم بالطابع السياسي في تأكيد لحديث فوكوه المعروف حول أثار القوة علي تفاعلات ومصائر الخطاب. فليس من المعروف بدقة هل يستعمل المصطلح للدلالة علي مضامين وأساليب الدعاة الإسلاميين في الوقت الراهن وفي بلدان عدة كما قد يتبادر إلي الذهن، لاسيما الذهن الذي يركز علي المعني اللغوي للمصطلح ولا ينتبه إلي خلفياته الفلسفية التي أشرنا إليها.

فمن المؤكد أن الكثيرين ممن انخرطوا في الحديث عن الخطاب الديني في هذه الآونة ولاسيما من ناحية التجديد والتحديث التي يدور التركيز عليها كانوا يفهمون المصطلح علي أنه يقتصر علي هذا الجانب اللغوي والأسلوبي وعلي أنه قد يمتد إلي بعض المضامين المتجسدة في هذه الأساليب اللغوية. وكان هؤلاء جلهم علي الجانب الديني الإسلامي من العلماء والفقهاء والكتاب ودارت تصورتهم حول أن المستهدف من تجديد وتحديث وتغيير الخطاب الديني إنما ينصب علي المجال اللغوي الأسلوبي ويشمل اللهجة وبعض الجوانب الشكلية بطريق تجاري مع العديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية التي يخشى التمشي معها ولاسيما وأنها مفروضة من جانب القوى السياسية الحاكمة وبالأكثر من جانب القوى الدولية الكبرى المسيطرة مثل الولايات المتحدة وأوروبا والعديد من القوى العالمية الأخرى الداخلية إجمالا في حركة العولمة مثلا. وفي هذا الإطار كان الحديث يدور حول قضايا أصبحت مشهورة من كثرة الترديد مثل تحسين صورة الإسلام، وتوضيح موقف الإسلام من المرآة أو الشباب أو غير المسلمين. ومن هنا سارت جهود تجديد الخطاب الديني علي الجانب الإسلامي علي نحو سرعان ما اتسم بالروتينية.

وعلي الجانب الأخر وقفت قوى فكرية وسياسية تبنت مفهوما للخطاب يقارب مفهومه عند المجال الفلسفي بحيث انصب تفكيرها على كامل الميدان الديني الإسلامي بالذات. لما يشمل الرؤى والعقيدة والشريعة والقيم العامة. ولأن هذه القوى وتسندها في ذلك قوى سياسية ذات نفوذ داخل وخارج الدول العربية كانت تتخذ موقفا نقديا أو رافضا للخطاب الديني الإسلامي لهذا المعني الواسع، وقد تعمدت في معظم الأحيان عدم الجهر بهذا. المفهوم الواسع للخطاب. وظل الأمر يدور وحتى الآن داخل نوع من اللعبة الخفية بين تيارين أو جهتين يتحدثان في نفس الوقت عن الخطاب الديني ولكن مع تبني مفهومين مختلفين بين السعة والضيق لهذا الخطاب وأدى هذا التفاوت إلى بروز تناقض وتباين بين حديث عن الخطاب الديني اتسم بالروتينية والتكرار لمقولات حول التسامح مع الآخرين وحقوق المرآة والشباب... الخ، وحديث أخر يخوض في عقائد الدين الأساسية ويزعزعها لدي الجماهير تحت مسمي تجديد الخطاب الديني وهو التجديد الذي وصل عند هذا الفريق إلى حد هدم الخطاب من أساسة.

والحقيقة أن مصطلح "الخطاب الديني" نفسه قد وقع ضحية لنفس قوانين القوة التي تحدث عنها فوكوه. ذلك لأن القوى العلمانية التي تساندها وتحركها التيارات السياسية الحاكمة والقوى الدولية صاحبة النفوذ في العالم العربي استخدمت قواتها الاجتماعية والإعلانية والمادية في الاستيلاء على الدعوة التي أطلقتها هي نفسها في البداية وفرض المفهوم الذي تريده علي مسألة "الخطاب" بحيث تحقق مصالحها المستمرة في علمنة وتغريب الإسلام تحت مسمي التجديد والتحديث للخطاب الديني. بمعني كامل مجال الدين ونطاقه بما فيه كما قلنا العقائد والرؤى والشرعية.

وفرض هذا المفهوم نفسه علي النقاش العام مدفوعاً بقوة الذين اعتنقوا فكرته في وقت وجد فيه التيار الأخر الذي فهم المصطلح في الإطار اللغوي الأسلوبي الشكلي نفسه في وضع غريب إذ يحاول تغيير الأساليب والأشكال واللهجة لكنه على الجانب الأخر بتغير في المضامين الكبرى ذاتها للدين مما يفرض عليه أن يساير هذا الجانب و إلا وقع في الروتينية والتكرار .

وهكذا الخطاب الديني كمصطلح منذ البداية يهدف في النهاية إلى إنهاء أو إسقاط هذا الخطاب ويتوسل إلى ذلك بمزيج من الإخفاء لمفهومه الحقيقي عن الخطاب ولحقيقة ممارسته للقوة بأشكالها المختلفة لكي يمرر هذا الهدف وذلك المفهوم.

والسر في هذا الإخفاء هو أن معظم الذين ألقيت دعوة الخطاب الديني أمامهم فهموها على أنها تعني الجانب اللغوي (اللهجة) والأسلوبي والشكلي دون أن ينتبهوا أن هذا الجانب في حد ذاته لا يمكن أن يتغير أو يتطور بشكل أو بآخر دون أن يؤثر هذا علي المضامين والأفكار. لكن هذا التمويه كان ضروريا أي التمويه بطرح مفهوم قاصر عن الخطاب لكي لا تثار حساسيات كثيرة عند أصحاب العقيدة الدينية.

ويبدو أن المطلب الآن بأن تجري المناقشة في وضوح ونزاهة وموضوعية وبدون التمكين المسبق لتيار (هو في الحقيقة رافض أو ناقض للخطاب الديني) دون إعطاء فرصة للتيار الآخر يحسم هذا النقاش قبل أن يبدأ.
ــــــــــــــــ
د.محمد يحيى

www.islamweb.net