في أيام ازدهار الحضارة الإسلامية كانت أمة الإسلام متفوقة على الأمم الأخرى في الجانب الأخلاقي والتشريعي والعمراني، وقد مكَّنها ذلك من أن تصوغ طموحات كثير من الأمم، وتوصِّف لها شروط العيش اللائق؛ وهذه سُنَّة مطردة: الأقوى والأعلم والأشد حداثة يشق طريق التقدم، ويمشي خلفه الآخرون، كما يمشي جيش جرار خلف قائد مظفَّر.
نحن اليوم نعاني من هذه الوضعية؛ فبما أننا لا نقود رَكْب الحضارة، بل لا نشارك في قيادته، فإننا لا نستطيع أن نتحكم في شؤوننا على النحو المطلوب، وإن الأساس الفكري والأخلاقي للاستقلال يكمن في التحكم في توجيه الطموحات والتطلعات، وفي صياغة المعايير والمرجعيات لِـمَا هو مقبول وجيِّد وممتع ومطلوب، وما هو خطِر ورديء وسيئ، وإن من الملاحَظ اليوم بقوة: أن (العولمة) وضعت الناس في ما يشبه الخلّاطة الكبيرة.
ووفَّر التقدم التقني درجة من الانفتاح والتواصل العالمي، لم يكن أذكى العقول قادراً على مجرد تخيُّلها، ونحن نعرف أنه حين يلتقي القوي بالضعيف والذي يصنع بالذي يستهلك.. فإن اللقاء يكون في غالب الأمر لمصلحة القوي والمنتج، وهذا ما نلمسه اليوم على نحوٍ جليٍّ؛ حيث إن بريق الدول الصناعة يزداد قوة في عيون كثير من العرب والمسلمين، وصار التطلع إلى المحاكاة دون تمييز أقوى مما كان عليه الأمر قبل عشرين سنة أضعافاً مضاعفة، حتى إن بعض المثقفين ممن يقيمون الشعائر وصل بهم الافتتان بالغرب إلى درجة أنهم يتمنون أن يكون لدينا مثــل مــا لدى الغــرب علـــى كــل صُعُد الحياة و في كل مجالاتها.
صحيح أن هذا التمني ليس بالجديد، لكن الحقيقة أن الشريحة التي تعتقد بالاقتباس الواسع جداً من الغرب صارت أوسع من السابق بما لا يدع مجالا للمقارنة، وهذا يشكِّل نقطة ضَعْف، وتأَخُّر في وضعية أمتنا اليوم.
شيء ثانٍ أشعر أن أمتنا تتراجع على صعيده، هو الميل إلى الشكل والمظهر على حساب المضمون والجوهر؛ والحقيقة أن التقدم العمراني كان دائماً يجنح إلى الاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر، وهذا ما نلاحظه اليوم. وتستطيع أن ترى هذا رأي العين في كل مكان، ولا أعتقد أن مهنة ( هندسة الديكور ) ازدهرت في أي مرحلة من مراحل تاريخنا كازدهارها اليوم، ونجد في المقابل نوعاً من الزهد في معانٍ وأخلاقيات تتصل بالجوهر واللباب، مثل: التقلل من متاع الدنيا والتواضع والإيثار وتنقية النفوس من عِلَلها وصَقْل القلوب والأرواح، وهذا كله بسبب التأثير الكبير الذي تتركه الحضارة المادية في ثقافتنا وسلوكياتنا اليومية.
الشيء السلبي الثالث الذي أودُّ الإشارة إليه: هو تفتُّح الوعي على المصلحة الشخصية، وهذا أيضاً من المفرزات السلبية للتقدم العمراني. تفتُّح الوعي هذا جعل الناس مشغولين إلى حد الهوس بتحقيق المزيد من المكاسب الخاصة مع غَضِّ الطرْف عن طُرُق الكسب والتساهل في المحذورات الشرعية التي تحيط بها، كما أن حِسَّ الانتماء إلى الأمة قد تراجع، كما تراجع الاهتمام بالشأن العام والعمل على إصلاحه.
في ختام هذه المقالات أودُّ أن أقول: إن الوضع العام للأمة اليوم - من غير النظر إلى التفاصيل - يُعدُّ أفضلَ بكثير مما كانت عليه قبل أربعمائة سنة ماضية، أما إذا قارنَّا وضْعَنا اليوم بما كان عليه الحال قبل عشرين سنة، فإننا سنجد أن بعض جوانب حياتنا يتقدم، وبعضها في حالة نكوص وتأخُّر، ولعلِّي أشير هنا إلى الآتي:
1 - سيظل قياسنا لأوضاعنا تقريبياً بسبب عدم دقة المقاييس التي نستخدمها، وسيظل لدينا نوع من الاختلاف في ذلك.
2 - من المهم جداً أن ننشئ الكثير من المؤسسات والأطر والأنشطة المهتمة برصد تحولات الواقع؛ حيث إننا نلاحظ أن الاهتمام بكثير من الأمور الجيدة آخذ في التآكل، كما نرى وجود الكثير من المبادرات الجيدة والخيرة، وإن الرصد المنهجي الاحترافي سيوفر لنا ما يساعدنا على وَضْع المشروعات الإصلاحية الجيدة، كما يساعدنا على تنظيم ردود أفعالنا على التطورات الجارية.
3 - أنا أدعو كل من له قدرة على فَهْم ما يجري في الواقع، وفَهْم العوامل المؤثرة في اتجاهاته، أن يدلي بدلوه في توعية الأمة وتنوير الرأي العام حتى لا ننجرف مع التيارات غير الرشيدة.
4 - سيظل تحديد التعريفات والمفاهيم والمصطلحات الحضارية هو الشيء الذي يجب أن نبدأ به عند كل محاولة لفهم ما يحتاج منا إلى مناصرة وتعزيز، وفَهْم ما يحتاج إلى حذر ومقاومة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.