من الألفاظ التي اختص بها القرآن الكريم لفظ (الاستقامة)، وهو من الألفاظ المركزية في الشريعة الإسلامية، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يكون الاعتصام به في درب الحياة اللاحب، أجاب بقوله: (قل ربي الله ثم استقم) رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما.
والجذر اللغوي لهذا اللفظ هو (قوم)، تقول: قام قياماً، إذا انتصب، والقَوْمة: المرة الواحدة. ويقال أيضاً: قوَّمت الشيء تقويماً: إذا قدرت قيمته ومكانته، وأصله أنك تقيم هذا مكان ذاك. ومن الباب قولهم: هذا قِوام الدين والحق، أي: به يقوم.
ولفظ (الاستقامة) يقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، وبه شبه طريق الحق، قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}. واستقامة الإنسان: لزومه المنهج المستقيم.
و(الاستقامة) بحسب مفاهيم الشرع: لزوم ما جاء به الشرع أمراً ونهياً. قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} (الأنعام:153).
ولفظ (الاستقامة) ورد في القرآن الكريم في عشرة مواضع في صيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه: {فاستقم كما أمرت} (هود:112). وورد وصفاً لـ {الصراط} في خمسة وثلاثين موضعاً، من ذلك قوله تعالى: {ويهديك صراطا مستقيما} (الفتح:2)، وورد وصفاً لـ (القسطاس) في موضعين فقط، أحدهما: قوله عز وجل: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} (الإسراء:35)، ولم يأت هذا اللفظ بصيغة الاسم (استقامة) في القرآن.
ولفظ (الاستقامة) ورد في القرآن الكريم على أربعة معان، هي:
الأول: بمعنى الثبات والدوام على الدعوة إلى الدين، من ذلك قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}، قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة. ونحو ذلك قوله عز وجل: {فادع واستقم} (الشورى:15)، قال البغوي: اثبت على الدين الذي أمرت به. وعلى ذلك أيضاً يفسر قوله تعالى: {قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما} (يونس:89)، قال الطبري: فإنه أمر من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما، من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {فاستقيما}: فامضيا لأمري، وهي الاستقامة. وكذلك قال ابن كثير في معنى الآية.
الثاني: بمعنى الثبات على التوحيد، وعلى هذا قوله سبحانه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} (فصلت:30)، أي: ثبتوا على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره معه. وقد روى الطبري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، قال: (قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها، فهو ممن استقام). وروي الطبري أيضاً عن سعيد بن عمران ، قال: قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئاً. وروي أن المراد من هذه الآية الثبات والدوام على طاعة الله، وهو قريب من معنى الثبات على التوحيد. قال ابن كثير: عملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ على المنبر قوله سبحانه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، قال: استقاموا لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعلب.
الثالث: الثبات على طاعة الله والتزام أحكامه، على ذلك قوله سبحانه: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} (الجن:16)، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة} يعني بالاستقامة: الطاعة. أي: لو ثبتوا واستداموا على طاعة الله، لأسقيناهم ماء نافعاً كثيراً. وفي الآية معنى ثان ذكره ابن كثير، حاصله: أن أهل الضلال لو استمروا على ضلالهم، لأوسعنا عليهم الرزق استدراجاً لهم. وعلى كلا المعنيين يبقى معنى (الاستقامة) هنا: الدوام والاستمرار، لكن على المعنى الأول - وهو الأرحج - الثبات والدوام على الطاعة، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف:69). وعلى المعنى الثاني، الثبات على الضلال والكفر، ويؤيد هذا المعنى قوله سبحانه: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} (الأنعام:44).
الرابع: بمعنى الوفاء بالعهد والثبات عليه، وذلك قوله سبحانه: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} (التوبة:7)، قال قتادة : فلم يستقيموا، نقضوا عهدهم. وقال الطبري: أمر سبحانه نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام، فما استقاموا على عهدهم. وقال ابن كثير: إن تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم، فامضوا على ما عاهدتموهم عليه.
والذي نخلص إليه مما تقدم، أن لفظ (الاستقامة) في القرآن يفيد معنى الثبات على الأمر والدوام والاستمرار عليه بشكل أساس، أما صرفه إلى (الثبات) و(الدوام) على هذا الأمر أو ذاك، فهو أمر يحدده السياق القرآني، وترشد إليه آثار السلف.