من شعارات الحياة: "كما جاءت إليك فسوف تذهب إلى غيرك"، وهو تصويرٌ دقيق لحقيقة التملّك عند الخلائق، لأن المال له دورته وعجلته التي لا تتوقّف عند أحد، ومهما استوطن المال في خزائن أحدٍ من العالمين فمصيره أن يكون إلى ورثته، أما المالك الحقيقي والوارث الفعلي للسماوات والأرض فهو الله سبحانه وتعالى، ومع اسم الله الوارث.
الأصل في الاشتقاق:
الوارث على وزن اسم فاعل، من الفعل ورِث، يُقال: ورِث أباه يرِثه، وهو أحد الأفعال الواردة بالكسر في ماضيها ومضارعها، بينما القياس في الفعل الماضي المكسور أن يكون مضارعه بالفتح، كالفعل: فرِح يفرَح.
ويُقال: ورِث وِرْثاً ووِراثة وإرْثا ورِثةً، بكسر الكلِّ، وأورثه أبوه وورّثه، أي جعله من ورثته، وتوريث النار: تحريكها لتشتعل.
ومن اشتقاقات الكلمة الميراث، وهو أن يكون الشيء لقوم ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب. كما قال الشاعر:
ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا
وقد جاء استعمال هذا الاشتقاق في حق الله جلّ وعلا في كتابه الكريم، وذلك في آية: {ولله ميراث السماوات والأرض} (آل عمران:180)، والمعنى أن الله يفني أهلهما فتبقيان بما فيهما، وليس لأحد فيهما ملك، فخوطب القوم بما يعقلون لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثا له إذ كان ملكا له.
وآية أخرى تبيّن أن الله يورث الجنة للمؤمنين، قال تعالى: { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء}، وتأويلها كما ذكر الإمام ابن جرير الطبري، أن الله عز وجل قد جعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار -لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا فدخلوها- ميراثا لنا عنهم.
أما الوارث، فهو اسم من أسماء الله عز وجل، يدلّ على بقائه وديمومته، فهو يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، أي يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له.
وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم أمتعني بسمعي وبصري واجعلهما –وفي رواية واجعلها- الوارث مني) رواه الترمذي، والمقصود بأنه أراد بقاءهما وقوتهما عند الكبر وانحلال القوى النفسانية، فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى، والباقييْن بعدها، وهذا المعنى هو الذي ذكره شرّاح الحديث كالإمام ابن الأثير.
المعنى الاصطلاحي:
تكاد تتفق كلمة العلماء على أن "الوارث" هو الذي يرث السماوات والأرض وما فيهما بعد موت الخلائق وانتهائها، فيكون باقياً بعد فناء الخلائق، مما يدلّ على العلاقة الوثيقة والاشتراك المعنوي الكبير بين اسم الله "الوارث" واسمه "الباقي" فكلاهما يدلّ على أنه سبحانه هو المتفرّد بالملك والبقاء عند تعميم الهلاك والفناء، فتكون له الأبديّة التامّة التي تنتهي إليها الأمور.
يقول ابن الأثير: "الوارث: هو الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم"، ومن شرح الإمام الخطابي لهذا الاسم قوله: "الوارث: هو الباقي بعد فناء الخلق، والمسترد أملاكهم وموارثهم بعد موتهم، ولم يزل الله باقيًا مالكًا لأصول الأشياء كلها، يورثها من يشاء ويستخلف فيها من أحب".
وفي ضوء ما سبق، قام المفسّرون بتفسير الآيات التي ورد فيها اسم الله "الوارث" :
يقول أبوالسعود في تفسير قوله تعالى:{وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون} (الحجر:23): " (ونحن الوارثون): أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة، المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك، الحاكمون في الكل أولاً وآخراً، وليس لهم إلا التصرف الصوري والملك المجازي"، ويقول الإمام البغوي عند تفسير قول الله تعالى: {وأنت خير الوارثين} (الأنبياء: 89): "أثنى على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وأنه أفضل من بقي حياً"، ويقول الإمام الطبري في بيان معنى قوله تعالى: {وكنا نحن الوارثين} (القصص:58): " ولم يكن لما خّربنا من مساكنهم منهم وارث، وعادت كما كانت قبل سكناهم فيها، لا مالك لها إلا الله، الذي له ميراث السماوات والأرض".
أدلة هذا الاسم من النصوص الشرعيّة:
ورد اسم الله الوارث في القرآن الكريم ثلاث مرّات، في قوله تعالى: {وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون} (الحجر:23)، وقوله تعالى: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين} (الأنبياء: 89)، وقوله عز وجل: { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين} (القصص:58).
وورد في موضع واحد بصيغة الفعل، في قوله تعالى: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} (مريم:40).
آثار الإيمان بهذا الاسم:
أولاً: الصبر على الحق والتواصي عليه، وعدم اليأس من انتفاش الباطل وسطوته، أو الحزن من تسلّط أعداء الرسالات والمتآمرين على شريعة الله؛ فإنهم مهما طغوا وتجبّروا، وعتوا عما نهوا عنه، وتنكّبوا عن سبيل الحق، وظنوا ما لهم من محيص، وأمعنوا في عداوة الصالحين ومحاربتهم بشتّى الوسائل، فإن مصيرهم إلى زوال، وليس لهم إلا ذلك النطاق الزمني اليسير ليستكبروا بغير الحق ويتحكّموا في رقاب الناس، ثم يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها وإليه يُرجعون.
فالعاقبة للمتقين والعقبى لهم، وما على المؤمنين سوى الاستعانة بالله جلّ وعلا والتوكّل عليه، وهذا هو عين ما دعا إليه موسى عليه السلام حين خاف أتباعه من بطش فرعون وقومه: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} (الأعراف:128)، هذه هي قصّة المدافعة بين الحق والباطل في الدنيا، أما في الآخرة: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} (الزخرف:43).
ثانياً: استنهاض الهمم في مجالات الخير، لاسيما الإنفاق في سبيل الله، انطلاقاً من الإدراك العميق بأن ما بين أيدينا من الأموال إنما هي ودائع استخلفنا الله تعالى عليها لينظر كيف سنتصرّف وفيها ونتعامل بها:
وما المال والأهلون إلا ودائع * ولابد يوماً أن تردّ الودائع
فهو ترغيبٌ في إنفاق المال في وجوه الخير، وعدم البخل به واكتنازه، ونستبين هذه الدعوة من خلال قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (يقول العبد: مالي، مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس) رواه مسلم.
ويُفهم مما سبق أن على المسلم أن يستعمل ما رزقه الله تعالى من الطيبات فيما يُرضيه ويُحبّه، ويتنافس مع إخوانه في الخيرات، وألا يغترّ بزهرة الحياة الدنيا الفانية.
ثالثاً: اسم الله "الوارث" يكشف حقيقة التملك عند الخلائق، فملكهم إلى زوال، وهو ملكٌ ناقصٌ ولحظيّ غير دائم، ناقصٌ من ناحية الكمّ إذ يبقى محدوداً بما وهبه الله، ومن ناحية القدرة على التصرّف شرعاً وقدراً، ولحظيٌّ مآله إلى زوال ثم يتركه إلى ورثته، بينما نجد أن ملك الله شاملٌ وكاملٌ لا يعتريه نقص، وباقٍ دائم لا يعتريه زوال، فهو الوارث على جهة الشمول والكمال، وهذا يجعلنا استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى.