من الظواهر الاجتماعية المؤرقة إهمال العناية بالمسنين وضياع الأدب معهم، وهم كبار السن الذين بلغوا مرحلة عمرية تحتاج إلى مزيد عناية وتوقير واحترام ، ورحمة وشفقة ، ورد الجميل والمجازاة بالإحسان ، فالكبار والمسنون ـ رحِمَا ودينا ـ لا يضيعون في مجتمع الإسلام الذي أولى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ القدر الكبير لرعايتهم والاهتمام بهم، فقال : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ) رواه الترمذي .
ذو الشيبة له مكانة كبيرة في هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة ) رواه ابن حبان، وعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا تَنْتِفوا الشَّيْبَ، فإِنه ما من مسلم يَشِيبُ شَيبة في الإسلام، إلا كانت له نوراً يوم القيامة )، وفي رواية: ( كتب الله له بها حسنة، وحَطَّ عنه بها خطيئة ) رواه أحمد .
وجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للشيخ الكبير حرمة وحقاً لشيبته وكبره وعبادته لربه، فعن عبد الله بن شداد ـ رضي الله عنه ـ: أن نفراً من بنى عذرة ثلاثة أتوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسلموا، قال: فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( مَنْ يَكْفِنيهِمْ؟ ـ أي من يقوم بأمورهم ـ قال طلحة: أنا. قال: فكانوا عند طلحة، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثًا، فخرج فيه أحدهم، فاستشهد، قال: ثم بعث بعثًا فخرج فيه آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه. قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد أخيرًا يليه، ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم، قال: فدخلني من ذلك، فأتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت ذلك له، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما أنكرتَ من ذلك، ليس أَحَدٌ أَفْضَلَ عند الله من مؤمن يُعَمِّرُ في الإسلام، لِتسْبيحِهِ، وَتَكْبِيرِهِ، وَتَهْلِيلِهِ ) رواه أحمد .
وفي هذا الحديث دلالة على فضل الكبير وذي الشيبة المسلم، وإنما يكون هذا الفضل بكثرة عبادته لله عمن مات قبله، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من طال عمره وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟، قال: من طال عمره وساء عمله ) رواه الترمذي .
وأوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شباب وصغار المجتمع بإكرام وإجلال الكبار والمسنين، ـ وشباب اليوم هم شيوخ الغد ـ، فقال: ( إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ) رواه أحمد .
وحذر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عدم معرفة حق الكبير وترك توقيره فقال: ( ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ) رواه أحمد، وقال: ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا )، وفي رواية ( ويعرف حق كبيرنا )رواه أحمد .
وفي سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثال الحي والواقعي في معرفته لقدر الكبار والمسنين وعنايته بهم وشفقته عليهم ، فقد روى ابن هشام في سيرته والبيهقي في الدلائل أن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قالت : لما دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟، قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، قالت: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم ) رواه أحمد .
تسليم الصغير على الكبير:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير ) رواه البخاري .
كما أن الكبير في هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحق بالمبادأة في الكلام، والحوار، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عبد الله بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ بن مسعود أَتيَا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا في النخل، فَقُتِلَ عبد الله بن سهل فجاء عبد الرحمن بن سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتكلموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبد الرحمن وكان أَصْغر القوم، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( كَبِّرْ ) رواه البخاري .
قَال يَحْيَى: " يَعْنِي لِيَلِيَ الْكَلامَ الأكْبَرُ ".
وهذه قاعدة عامة في تقديم الكبير والمسن في وجوه الإكرام والتشريف، فقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُبدأ بالكبير في تقديم الشراب ونحوه، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سقى قال: ابدءوا بالكبير - أو قال: بالأكابر ) رواه الطبراني .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستن وعنده رجلان، فأُوحي إليه: أن أعط السواك أكبرهما ) رواه أبو داود .
قال ابن بطال: " فيه تقديم ذي السن في السواك، و يلتحق به الطعام والشراب والمشي والكلام وكل وجوه الإكرام " .
التخفيف عن المسنين في الأحكام الشرعية :
الأحكام الشرعية في هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دائمًا تأخذ في الاعتبار مبدأ التخفيف عن صاحب الحرج، كالمسن والمريض، ففي الفرائض: أجاز الشرع للمسن أن يفطر في نهار رمضان ـ ويطعم - إذا شق عليه الصيام، وأن يصلي جالسًا إذا شق عليه القيام، وأن يصلي راقدًا إذا شق عليه الجلوس وهكذا، وقد عنّف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ لما صلّى إمامًا فأطال فشق على المأمومين، فقال له : ( يا مُعَاذ! أَفَتَّانٌ أَنْتَ! ثَلَاثَ مِرَارٍ! فَلَوْلَا صَلَّيْتَ ب { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ }،{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }،{ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى }، فَإِنه يصلي وراءك الكبِير والضَّعِيفُ وَذو الحاجة ) رواه البخاري .
ورخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمسن أن يرسل من يحج عنه إن لم يستطع، فعَنْ الفضل أن امرأة مِنْ خثعَمَ قالَت: ( يا رسول الله، إِن أَبِي شَيْخٌ كَبِير عليه فريضة الله فِي الْحَجِّ، وَهو لا يَسْتَطِيع أَنْ يَسْتَوِي عَلَى ظهربعِيرِهِ، فقال لها النبِي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فَحُجِّي عَنْهُ ) رواه مسلم .
إن كبير السن له قدره ومكانته في الإسلام فينبغي أن يُتعامل معه بكل توقير وإجلال، ويظهر ذلك التوقير في العديد من الممارسات العملية في حياة المجتمع المسلم، وجميع هذه الممارسات لها أصل في سيرة وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل: ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ) ..