في سياق الحديث عن أهل الكتاب، وبيان موقفهم من أهل الإسلام والإيمان، ورد قوله عز وجل: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} (آل عمران:113)، نتوقف مع سبب نزول هذه الآية بعد بيان المراد بقوله سبحانه: {من أهل الكتاب}.
ذكر الإمام الرازي أن للمفسرين قولين في المراد {من أهل الكتاب} في الآية: الأول: أن المراد الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام -وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم- وبحسب هذا المراد، ذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سَعْية، وأسَيْد بن سعية، وأسد بن عُبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا، وصدقوا، ورغبوا في الإسلام، ورسخوا فيه، قالت: أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله} إلى قوله عز وجل: {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} (آل عمران:114)، ويؤيد هذا المراد قوله عز وجل: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران:110).
هذا هو المشهور في سبب نزول هذه الآية، وروي عن عطاء: أنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى، وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام.
وبحسب هذا القول يكون الغرض من الآية بيان أن أهل الكتاب ليسوا على وزان واحد، فمنهم مؤمن بالله مؤد ما عليه من واجبات، ومنهم كافر به، جاحد لنعمه وأفضاله.
القول الثاني: أن المراد {من أهل الكتاب} كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان، وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم، كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} (فاطر:22)، وبحسب هذا المراد، ذكروا في سبب نزول هذه الآية ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر صلاة العشاء، فقال لنا: ما على الأرض أحد من أهل الأديان ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت غيركم! قال: فنـزلت: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} رواه أحمد وغيره.
وفي رواية ثانية عنه، قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، كان عند بعض أهله ونسائه، فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فبشَّرنا، وقال: (إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب!)، فأنزل الله: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون}.
وبحسب هذا القول يكون الغرض من الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام، تأكيداً لما تقدم من قوله سبحانه: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110)، وهو كقوله سبحانه: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} (السجدة:18).