خلق الله تعالى الخلق وجعل وظيفتهم في هذه الحياة أن يعبدوه، وأن يقوموا في الأرض بمراده سبحانه وبما يأمرهم به وينهاهم عنه، ومن حكمته سبحانه أنه أخذ على عباده الميثاق منذ خلق آدم عليه السلام وقررهم فشهدوا له بربوبيته لهم وعبوديتهم له.. ومع ذلك جعل على نفسه حقا ألا يعذب هؤلاء الخلق إلا بعد إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم؛ ليقطع عنهم الحجة ويقيم عليهم المحجة {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}(الإسراء: 15).
وما زال سبحانه يوالي بإرسال رسله وإنزال شرائعه حتى ختمهم بخاتم المرسلين محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم؛ فبلغ الرسالة أتم البلاغ، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به عنها الغمة، وما قبضه حتى أكمل الدين، وأتم النعمة، ورضي للخلق الإسلام دينا لا يقبل منهم سواه ورضي شريعته حكما بين العباد إلى أن يلقوا ربهم يوم المعاد.
ولما لم يكن هناك بعد رسول الله رسول، وجب على أمته حمل دعوته من بعده والقيام بتبليغها للخلق أجمعين، وكان لابد لهذه الأمة أن تقوم بهذه المهمة ـ ضرورة لا اختيارا ـ وأن يكون منها من يقوم بهذا الواجب الكفائي وإلا أثم المسلمون بأكملهم وحوسبوا على التقصير في أداء الواجب المنوط بهم كأمة ختم الله بها الأمم.
ومن ثَمَّ كان واجبا على كل مسلم بقدر طاقته أن يتحمل من هذا الواجب ما يقدر عليه؛ كما أمره الله تعالى وأمره رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: [بلغوا عني ولو آية].
أدلة وجوب الدعوة
ولقد دلت أدلة الشرع من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة وأنها من الفرائض فمن ذلك:
أولا: قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}(آل عمران:104).. والآية واضحة في الدلالة على الوجوب لمجيء لام الأمر (ولتكن)، إلا أن قوله (منكم) يدل على أن الوجوب على الكفاية، وأن الأمة كلها مأمورة بأن توجِد منها من يقوم بهذه الفريضة حتى يسقط الإثم عن الآخرين.. قال الإمام ابن كثير عند تفسير هذه الآية: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فرْقَة من الأمَّة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ](رواه مسلم).
ثانيا: قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(يوسف:108) فبين سبحانه أن أتباع الرسول هم الدعاة إلى الله وهم أهل البصائر.. والواجب ـ كما هو معلوم ـ هو اتباعه والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}(الأحزاب:21)
ولذلك يبين المولى هذه المهمة العظيمة في قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}(آل عمران: 110).. فوصف الأمة المسلمة بما وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم {النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر}(الأعراف:157).
ثالثا: ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ..} الآية (التوبة:71).. وقال {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف}.. يقول الإمام القرطبي في تفسيره: " فجعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورأسها الدعاة إلى الإسلام".
رابعا: ومن الأدلة قوله تعالى : {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}(سورة العصر).. فدلت الآية على أن جنس الإنسان في خسران مبين إلا من تحلى بالإيمان والعمل الصالح وتواصى بالتمسك بالحق والجهر به صابرا على ما يصيبه من بلاء من جراء هذا الطريق الذي سلكه؛ لأن الإسلام لا يظهر ولا يسود إلا بدعوة وتبليغ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.." كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى.
ومن الأحاديث ما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}.. فعن قيس بن أبي حازم قال سمعت أبا بكر يقول في خطبته: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقابه. (رواه أحمد).
ونقل السيوطي عن الإمام النووي قوله: ”الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به لا يضركم تقصير غيركم. مثل قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، فإذا فعل ما كلف به من الأمر والنهي ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الآمر والناهي؛ لأنه أدى ما عليه، فإنما عليه الامر والنهي لا القبول".اهـ.
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: "ولقد صرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة بالدعوة؛ لأن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى استمرارية الدعوة. وفي هذه الحالة تكون فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملا صالحا، وإذا لم يقم أهل الإقليم أو القطر المعين بالدعوة على التمام صار الإثم عاما وصار الواجب على الجميع..
وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، واما بالنظر إلى عموم البلاد فالواجب أن يوجه طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله عز وجل في أرجاء المعمورة تبلغ رسالات الله وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث الدعاة وأرسل الكتب إلى الناس وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل" (مقال فضل الدعوة إلى الله للشيخ ابن باز).
خلاصة القول:
وخلاصة القول كما يقول صاحب كتاب "الدعوة قواعد وأصول": "أن في زماننا هذا كل مكلف من المسلمين فهو مطالب بهذا الواجب، وليس هذا التبليغ مقصورا على العلماء ـ كما يفهم العامة من المسلمين ـ بل كل مسلم مطالب أن يبلغ ما فهمه وعلمه، وأما العلماء فهم يختصون ـ مع دعوتهم العامة ـ بجانب التبليغ التفصيلي والأحكام الشرعية والمعاني التي يحتاج إليها عامة المسلمين؛ نظرا لسعة علمهم بذلك ومعرفتهم بالجزئيات كما قال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.. فالدعوة كما رأينا ضرورة شرعية لا ينبغي أن يماري في ذلك مسلم.