نزل القرآن الكريم مشتملا على المحكم والمتشابه، ومثله كلام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفي الخلق قلوب مفتونة، همها تَتَبُّع المتشابه من نصوص الوحي؛ لفتنة الناس عن اتباع الهدى، وهو مسلك أهل الضلال في كل زمان ومكان، يضربون النصوص بعضها ببعض ، باجتزاء مُخل، وفهم سقيم، وطريق الفهم السديد، رد المتشابه إلى المحكم، والتوفيق بين ما ظاهره التعارض.
ومن منافذ أهل الزيغ: باب مختلف الحديث، فقد جعلوه باباً لهم للطعن في السنة النبوية، في إظهار المناقضة بين كلام رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ومن ثمَّ اتهموا أهل الحديث بأنهم حملةُ كذبٍ ومتناقضات، وقد انبرى للرد على هؤلاء أهل العلم الراسخون فيه، كأمثال الإمام ابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب " تأويل مختلف الحديث " حيث تكلم في مقدمة كتابه عن الباعث له على تأليف هذا الكتاب، وكان مما ذكر: ما وقف عليه من ثلب أهل الكلام لأهل الحديث وامتهانهم، ورميهم بحمل الكذب، ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف ، وكثرت النحل ..."
وقد سار المستشرقون في التاريخ المعاصر في نفس المسار، ورددوا نفس الدعوى، ولكنَّ عصمةَ الوحي عن التناقض والتنافر صخرةٌ تحطمت عليها كلُّ الدعاوى، ويبقى الوحي مصدراً للهدى والإيمان (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء: 82]
معنى مختلف الحديث:
عرفه النووي بقوله: هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً، فيوفق بينهما، أو يرجح أحدهما.
حقيقة التعارض:
مما لا يمكن حصوله، وقوع التعارض الحقيقي بين النصوص، وإنما يحصل ذلك في تصور المجتهدين، بدليل أن التعارض نِسْبيٌّ يراه بعض المجتهدين، ولا يراه آخرون، قال ابن القيم موضحاً ذلك: (ونحن نقول لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة، فإذا وقع التعارض، فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقةً ثبتاً، فالثقة يغلط، أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر، إذا كان مما يقبل النسخ، أو التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم، فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أن يُوجد في كلام الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق، والآفة من التقصير في معرفة المنقول، والتمييز بين صحيحه ومعلوله، أو من القصور في فهم مراده -صلى الله عليه وسلم-، وحمل كلامه على غير ما عناه به، أو منهما معاً، ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع. وبالله التوفيق).
أهمية علم مختلف الحديث:
أهمية هذا العلم مستمدة من مكانة السنة النبوية، وضرورة فهمها الفهم الصحيح؛ ليصح بعد ذلك مسلك الاستنباط والاستدلال، وكلُّ مشتغل بالعلم وفهم مراد الشارع لا يستغني عن معرفة هذا النوع من العلم، فقد قال الإمام النووي -رحمه الله- "هذا فنٌ من أهمِّ الأنواع، ويَضطرُّ إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف"
وتظهر أهمية هذا العلم من خلال: ما أولاه أهل العلم من اهتمام في التأليف فيه، فمنذ وقت مبكر اهتم أهل العلم بالتأليف في مختلف الحديث، والجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض فألف الشافعي -رحمه- الله كتابه: اختلاف الحديث، وألف الإمام ابن قتيبة الدينوري كتابه: تأويل مختلف الحديث، وألف الطحاوي: مشكل الآثار، وهو أوسع ما ألف في الباب، وممن اشتهر بالتفنن في هذا العلم الإمام ابن خزيمة، وهو الذي قال: لا أعرف حديثين متضادين، فمن كان عنده فليأتني بهما لأؤلف بينهما. أ.هـ ، وهذا ظاهر في صحيحه، فلم يكن ديواناً مجرداً للحديث فقط، بل ضمَّنه من فقهه، وكلامه في الجمع بين الأحاديث، بطريقة تدل على رسوخه في فنَّي الفقه والحديث في آن واحد.
الرسائل العلمية والمؤلفات المعاصرة:-
لم يتوقف التأليف في علم مختلف الحديث، فقد صدرت مجموعة من الكتب والرسائل والمؤلفات المعاصرة في هذا الموضوع المهم، منها ما يخدم المؤلفات السابقة كالمقارنة والاختصار، ومنها ما أعاد كتابة هذا الفن بصياغة معاصرة وهذه بعض عناوينها:
مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين لنافذ حسين- منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث لعبد المجيد السوسوة - أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين لسليمان الدبيخي- مختلف الحديث عند الإمام النووي من خلال شرحه على صحيح مسلم جمعا ودراسة مقارنة منصور عبد الرحمن العقيل- منهج التوثيق والترجيح بين مختلف الحديث وأثره في الفقه الإسلامي عبد المجيد الوسنة - مختلف الحديث بين المحدثين والأصوليين الفقهاء أسامة الخياط- اختلاف الحديث وعناية المحدثين به عبد المجيد مصطفى أبو شحادة، وغيرها من الكتابات والرسائل العلمية.