نبدأ بهذا المقال كفاتحة لمجموع مقالات وحلقة أولى من مجموع حلقات في فلك مشروع يستهدف إحياء علوم السنة بتقريبها وتقديمها سهلة ميسرة للمسلمين، لا سيما وأن دين الله يرتفع على جناحين لا غنى عنهما: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لينتج ذلك في المحصلة معرفة بفروع من علوم الحديث لا يستغني عن معرفتها مسلم؛ حتى ينهل المؤمنون من هذا النبع الصافي – بعد معرفة ما صح منه وما لم يصح – تطبيقا في ذات بينهم وتحقيقا في واقعهم، وليكون سبيلا قويما وصراطا مستقيما يتعرف به الناس على الثابت من نهج نبيهم صلى الله عليه وسلم ولا تتفرق بهم السبل عن سبيله، فتخبت له قلوب الذين يؤمنون بأن خير الهدي هديه وأن لا نجاة للبشر من الشقاء الذي يصطرخون فيه إلا بالشرع القويم الذي أرسل به صلوات ربي وسلامه عليه.
بالرغم من الطبيعة التجريدية النثرية لنصوص الأحاديث النبوية وتوزعها على مواضيع شتى تغطي كل مناح الحياة في أبواب متفرقة لا يكاد يجمها ضابط، ثم دخول نصوص من بين هذه الأحاديث لا ترقى لدرجة الصحة أو الحسن إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لغير ذلك من العلل والأسباب المشروحة بإسهاب في علوم رواية الحديث، بالرغم من كل ذلك فقد برزت محاولات تهدف لاستيعاب هذه الأحاديث غير المقبولة وتمييزها بقواعد كلية تستغرق كل أفراد جزئياتها أو باستثناءات محصورة.
ووسيلة استنتاج هذه القواعد الكلية هي الاستقراء والتتبع؛ فقد تتبع جهابذة الحفاظ والمحدثين نصوص الأحاديث النبوية في كل مدونات السنة، ودرسوا أسانيدها ونقحوا نصوصها واستنبطوا من ذلك عددا من القواعد نحاول من خلال هذه الإطلالة لم أشتات نقولهم بعضها لبعض وذكر القواعد الكلية المضردة للأبواب والموضوعات التي روي فيها عدد من الأحاديث والمرويات حكم عليها المحققون بأنه لا يصح منها شيء.
وقد ألفت كتابات حول هذا الموضوع إلا أنها لم تخل من ملاحظات منهجية؛ حيث نجد أن من الكتاب من توسع في التقعيد حتى إنه ذكر كليات من القواعد والفروع الفقهية المحضة مما لا يعرف له مثال في كتب الحديث ولم يخرج أحد من أصحاب المسانيد رواية في موضوعه، ومنهم من يذكر القواعد الكلية للحديث الواحد، ومنهم من يذكر قواعد لا تضطرد ... إلى غير ذلك. وبصفة عامة فقد ذكر الحفاظ أمارات وعلامات يعرف بها الوضع وتتميز بها الأحاديث الموضوعة؛ منها:
أولا: مخالفة الحديث للعقل، مثل: أن يتضمن جمعاً بين النقيضين، أو إثبات وجود مستحيل، أو نفي وجود واجب ونحو ذلك.
ثانيا: ركاكة النص وضعف ألفاظه عن قوة فصاحة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .
ثالثا: مخالفته للمعلوم بالضرورة من الدين، مثل: أن يتضمن إسقاط ركن من أركان الإسلام، أو تحليل شيء من المحرمات القطعية، أو تحديد وقت قيام الساعة، أو جواز إرسال نبي بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم، ونحو ذلك.
رابعا: تضعيف الأجر على العمل التافه؛ بالإفراط بالوعد العظيم على الفعل الحقير، أو ترتيب الوعيد الشديد على الأمر الصغير، مثل ما يكثر في أحاديث القُصَّاص .
وروي أن بعض الحفاظ سئل: كيف تعرف أن الراوي كذاب؟ فقال: إذا روى: " لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها" علمت أنه كذاب، ولنبدأ بسرد أهم هذه القواعد مما انتشرت أمثلته في مسانيد الحديث وكثر تداول الناس لها، واتفق العلماء على الحكم عليها بالضعف أو الوضع، مع ذكر الأمثلة لكل قاعدة، وبالله نستعين:
• كل ما ورد في تخصيص ليلة النصف من شعبان بصلاة أو عبادة لم يصحّ منه شيء، حَكَمَ ببطلان كل أحاديثها جمعٌ من المحدثين؛ منهم ابن الجوزي والبيهقي وشيخُ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية والحافظ العراقي وغيرهم، من ذلك الحديث الذي رواه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلتها وصوموا يومها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماءه الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فارزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا سائل فأعطيه؟ ألا كذا، ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر" وهذا الحديث موضوع، وقد ورد في فضل هذه الليلة مطلقاً أحاديث بأسانيد متعددة لا تخلو جميعها من مطعن، واختلف المحدثون قديماً وحديثاً في تصحيح بعضها والذي عليه جل المحدثين أنها ضعيفة .
• كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منه شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع، [قاله الحافظ العراقي المغني عن حمل الأسفار (ص: 1510)]، مثال ذلك ما أخرجه النسائي عن الزهري عن مجمع بن جارية عن عمه مرفوعا: (الدين هو العقل، ومن لا دين له لا عقل له) .
• أحاديث اللعب بالشطرنج - إباحة وتحريما - كلها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يثبتُ فيه المنع عن الصحابة، [قاله ابن القيم في المنار المنيف (ص 134)]، مثال ذلك حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ملعون من لعب بالشطرنج "، [أخرجه الديلمي] .
• كل ما جاء من الأحاديث في الحض على ركعات معينة بين المغرب والعشاء لا يصح وبعضه أشد ضعفا من بعض، وإنما صحت الصلاة في هذا الوقت من فعله صلى الله عليه وسلم دون تعيين عدد [سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (1/ 680)]، من أمثلة هذه الأحاديث ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: " من صلى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة " قال البصيري: في إسناده يعقوب بن الوليد اتفقوا على ضعفه، وقال فيه الإمام أحمد: من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث.
• لا يصح في فضل العمائم شيء غير أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسها وألبسها، وكذلك أحاديث فضل لبس العمائم يوم الجمعة: كلها موضوعة، ومن أمثلتها؛ ما روي عن أبي المليح عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اعتموا تزدادوا حلما)، أخرجه الطبراني، والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان، وحديث: " إن لله ملائكة موكلين بأبواب الجوامع يوم الجمعة يستغفرون لأصحاب العمائم البيض "، أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
• أحاديث فضل سورة يس أكثرها مكذوبة موضوعة ، وبعضها ضعيف ضعفا يسيرا لكن لم يثبت منها شيء: ومن أمثلتها حديث: ( إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس، من قرأها فكأنما قرأ القرآن عشر مرات )، رواه الترمذي والدارمي، قال أبو حاتم: رأيت هذا الحديث في أول كتاب وضعه مقاتل بن سليمان وهو حديث باطل لا أصل له، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورا له )، رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في المعجم الصغير، ضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد وغيره.