إن من مسلّمات الشريعة وقواطع نصوصها تقريرها هيمنتها على سائر الشرائع السّابقة والقوانين الوضعيّة اللاّحقة، هذه الهيمنة ممتدّة بامتداد الواقع، وتستغرق بامتداد الزمان والمكان؛ بل هذان الأخيران لا يصلحان إلا بها، وبتحكيمها، فهي خاتمة الرسالات، ومن لوازم هذا أن تبقى صلاحيتها إلى غاية قيام السّاعة، فجعلها الله شاملةً لتفاصيل الحياة كلّها، يقول الإمام ابن القيّم في خاصيتي العموم والشمول :
" فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص، عمومٌ بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعمومٌ بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَن بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به ." -1-
ولا منازعة بين علماء الإسلام قاطبةً بوجوب تطبيق الشريعة الإسلاميّة في كافّة جوانب الحياة الإنسانية، سواء الأصوليّون الذين توسّعوا في قياس غير المنصوص على حكم المنصوص، أو الأصوليّون الذين ضيّقوا من مساحة القياس .
ولا يجوز في حالٍ من الأحوال، القول بعدم صلاحيّة زمانٍ أو مكانٍ لحكم الله تعالى، لأن حق التشريع لو رجعنا إلى الوحي محصورٌ في الله عزّ وجلّ، ويكون كل تشريعٍ آتٍ من العبد العالم المجتهد مستمدّاً من الشّريعة الإسلاميّة التي جعلت مساحةً كبيرة وقواعد ملزمةٍ للاجتهاد والفُتيا في النّوازل .
فالشمول في المنهج الرباني يستقطب كل حاجيات البشر، ويستوعب كل مصالحهم الدينية والدنيوية.
فهو يتناول النفس البشرية بالإصلاح، وشؤون الأسرة بالتربية، ومشاكل المجتمع بالتنظيم ويتناول الشمول العلاقات الدولية والإنسانية وعلى الخصوص وحدة الأمة الإسلامية وأخوتها وعلاقتها بغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب.
وهو في الشريعة الإسلامية يعالج كل شؤون الحياة الإنسانية فليس هناك من خيرٍ إلا دعا إليه، ولا من شرٍّ أو محظورٍ إلا نهى عنه ومنعه.
كما يتّسع ليشمل نظام الحكم في الإسلام، فهذا الأخير مبنيٌّ على أساس العدل، والشورى، والمساواة بين العباد وجلب المصلحة، ودرء المفسدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الحاكمية في هذا النظام لله وأن مصدر التشريع هو الكتاب والسنة، قال تعالى : { فإن تنـازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنـون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً } ( النساء 59).
ويتناول الشمول كليات الدين الخمس التي فرض الإسلام المحافظة عليها وهي : الدين والنفس، والعقل، والمال، والعرض. وأن الإنسان المسلم مكلف بجميع التكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات وأخلاق، مسؤول عنها ومتابع عليها فيجازى على إحسانه ويعاقب على إساءته، قال تعالى : {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى }
(النجم 39 -41)
أما خاصيّة الثبات، فنقصد بها مجموع العقائد الثابتة والأحكام القاطعة والقواعد المستقرّة التي تنسجم مع روح الإسلام ومقاصده، وليس هو كما تدعيه مختلف التيارات والمذاهب الفكرية زوراً وبهتاناً، فمن جهةٍ فالله عز وجل حصر التشريع في نفسه سبحانه وتعالى ومن ذلك قوله :
{ إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين } ( الأنعام : 57)
{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم } ( الشورى : 21)
{ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } ( المائدة : 50)
ذلك أنّه في مقارنة الأديان، يتمّ التفريق بين الشموليّة منها التي تمسّ كلّ جوانب الحياة، ومن ذلك الإسلام واليهوديّة والهندوسيّة وغيرها، وتلك التي لا تتوفر على شريعة كالمسيحيّة، ولا يستقيمُ عقلاً أن يخرج مذهبٌ فكريّ في ظروفٍ قامت على دينٍ لا يتوفّر على شريعةٍ، وينادي أهل الأديان بإهمالِ شريعتهم المقدّسةِ مقابل قوانين وضعيّةٍ لا تزيد المجتمع إلا أمراضاً وفوضى . -2-
يقول فتزجرالد -3- في كتابه القانون المحمدي : " ليس الإسلام ديناً فحسب -4- ، ولكنّه نظامٌ سياسي أيضا . وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم " عصريّون" -5- يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر" -6-
فهذا رجلٌ ليس بمسلم ومع ذلك يقرّ هذه الحقيقة حين طالع الإسلام وتصفح مصنّفاته، والعيب كل العيب من أقوامٍ من بني جلدتنا، منحدرون من أوساطٍ مسلمةٍ يصرّحون بالمهلكات والطّامّات التي تنمّ عن جهلٍ كبير مستغرق.
وقد يقولُ قائلٌ أن مفهومَ الشموليّة منقوضٌ بعدم وجود نصوصٍ في ميدان العمران والإدارة والتّنمية، وقوانين المرور وغيرها .. وهو قولُ من لا يدرك مفهوم الشمول، فمن تصفّح نصوص الشريعة سيجد مادّةً كبيرة من التشريعات الكلّية والجزئية، من مسائل المعاملات والأحكام والسياسة الشرعية والاقتصاد وغيره، لكن بالمقابل سيجد القواعد العامّة التي تؤطر وتعطي المجتهد مجالاً واسعاً من الحريّة في استحداث ما يحقق مصالح الشرع والعباد على السواء، وهذا ما يضمن الاستمراريّة والتجديد للشريعة ومن تم صلاحيتها للعباد في كل زمانٍ ومكانٍ .
وكلّ هذا نجده في كتب المتخصصين في أصول الفقه، من قواعد كمراعاة العرف والواقع، وتغيّر بعض الأحكام بتغيّر الزمان والمكان، وفقه الأولويات والمقاصد، ومراعاة الخلاف العالي، والاستصحاب والاستحسان وغيرها ...
كلّ ذلك صادرٌ من رحم الشريعة، لكن أن يصدر من فكرٍ علماني يريد هدم الشريعة وهدرها بقواعد منها، فذلك ما لا تستسيغه العقول والفطر، ولا يوافقه الشرع بالمطلق . فكلّ ذلك من سوء التوظيف، ففرقٌ بين تداوله من طرف المتخصصين في الفقه العدول بما لديهم من علمٍ وخلفيّات فقهيّة وانضباطاتٍ معرفيّةٍ، وبين الجاهلين الغير متخصصين والساعين لخدمة أجنداتٍ غربيّة، وتقويضِ عرى الإسلام !
هوامش المقال
-1- كتاب إعلام الموقعين، 4/385
-2- سيأتي تفصيل ذلك في مقالاتنا التي ستتناول نقض المذاهب الفكريّة .
-3- مستشرق ومتخصص في علم مقارنة الأديان .
-4- يقصد ليس ديناً بمفهوم الغرب للدين المسيحي .
-5- يقصد طائفة منكري السنّة والعلمانيين المسلمين !
-6- نقلاً عن كتاب النظريات السياسية الإسلامية لمحمد الريس، ص : 28.