المتتبع لجذور المؤامرات في تاريخ المسلمين ـقديماً وحديثاًـ يجد وراءها اليهود والمنافقين، والتي يريدون من خلالها إثارة الفرقة والخلاف والنزاع والشقاق في المجتمع الإسلامي، ومعلوم أن اليهود هم قتلة الأنبياء والمرسلين، وهم أعداء المسلمين في كل عصر ومِصر، ومواقفهم الخبيثة الحاقدة على الإسلام وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة كثيرة متعددة...أما المنافقون الذين يُبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، فخطرهم على المسلمين أعظم من خطر الكفار المجاهرين؛ لأنهم يتآمرون ويظهرون في مظهر الأصدقاء، فما أكثر الفتن التي أثاروها، والمؤامرات التي دبروها، سواء في غزوة أُحُد أو في غزوة الأحزاب، أو في بني المصطلق أو في تبوك .. وهذه المؤامرات تتكرر بين الحين والحين، وتتغير أشكالها ومُسَمَّياتها بتغير الزمان والمكان، لكنها لا تتوقف، ولن تتوقف، فقد قال الله تعالى عن اليهود: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120)، وقال عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة:14-15).
والسيرة النبوية مليئة بالمواقف التي تصدى فيها النبي صلى الله عليه وسلم لمؤامرات اليهود والمنافقين، التي حاولوا من خلالها إشاعة الفرقة بين المسلمين، وبث الخلاف بينهم، ومن ذلك:
اليهود:
من النماذج والأمثلة لما كان يفعله اليهود ويحاولونه من إثارة القلاقل والفرقة والخلاف بين المسلمين، ما رواه ابن هشام في السيرة النبوية، والطبري والبغوي والشوكاني وابن المنذر وغيرهم، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: (مرَّ شاس بن قيس -وكان شيخاً (يهوديا) قد بقي على جاهليته، عظيمَ الكفر، شديدَ الضغن (الحقد) على المسلمين شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم، وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة -الأوس والخزرج- بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا قالوا فيه من الأشعار .. وكان يوم بُعَاث قبل الهجرة بثلاث سنين يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جَذَعَة (حربا)، وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ .. موعدكم الحَرَّة (مكان في المدينة)، فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: (يا معشر المسلمين! الله، الله .. أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟!). فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عز وجل عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (آل عمران:98-99)، وأنزل في شأن أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (آل عمران:100)، إلى قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105).
المنافقون:
واجه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة إلى جانب عداء اليهود ومؤامراتهم، عدواً جديداً لم يكن للمسلمين عهد به في مكة، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وأعلنوا الولاء للمسلمين وأضمروا العداء والكيد لهم، وكان على رأس هؤلاء المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، ومؤامرات المنافقين على المسلمين في السيرة النبوية كثيرة، ومنها ما حدث في غزوة بني المصطلق(المريسيع)، حيث حاول المنافقون فيها ـكما حاول اليهودـ تمزيق وحدة المسلمين بإيجاد الشقاق بين المهاجرين والأنصار، وإعادة النعرة الجاهلية، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فاستثمر المنافقون ـوعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول- هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟) قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعوها فإنها منتنة) رواه البخاري.
ومع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها، وقد سماهم الله عز وجل بها على سبيل المدح لهم، كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة:100)، إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت استعمالاً خاطئاً ربما يؤدي إلى تفريق المسلمين ويُحْيي العصبية الجاهلية، أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكاراً شديداً، وقال قولته الشديدة: (دعوها فإنها منتنة)، وذلك حفاظاً على وحدة الصف المسلم، والتحذير من العصبية بجميع ألوانها، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية، أو الجنس، أو اللون أو غير ذلك. قال النووي: "وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك (دعوى الجاهلية) فهو كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية". وقال الشنقيطي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (دعوها) يدل على وجوب تركها، ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة، وما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه". وقال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون ذريعة إلى قول الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه".
لقد كانت المواقف النبوية في القضاء على محاولات اليهود والمنافقين لتفريق المسلمين حكيمة، فقد أسرع إلى الأنصار ـ الأوس والخزرج ـ وذكّرهم بالله عز وجل، وبيّن لهم أن ما أقدموا عليه من خلاف وعصبية هو مِن أمر الجاهلية، وذكّرهم بالإسلام، وما أكرمهم الله به من إنقاذهم من الكفر، وتأليف قلوبهم بالإيمان، وقال لهم: (أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟!) فأزالت كلماته صلى الله عليه وسلم كل أثر للخلاف بينهم، وأدركوا أن ما وقعوا فيه كان من وساوس الشيطان، وكيد عدوهم من اليهود والمنافقين، فبكوا ندماً على ما وقعوا فيه، وتعانقوا تعبيراً على وحدتهم ومحبتهم الإيمانية لبعضهم.
تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من دروس نافعة ومواقف نبوية حكيمة وتربوية، نستفيد منها في حاضرنا ومستقبلنا في اليقظة لمؤامرات أعدائنا علينا، وحكمة التعامل معها للقضاء عليها، كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.