شمولية السيرة النبوية

23/08/2015| إسلام ويب

تجمع السيرة النبوية عدة مزايا تجعل دراستها ضرورية لعلماء الشريعة والدعاة إلى الله والمهتمين بالإصلاح والتربية؛ إذ هي منهج متميز, وعِبَر متجددة, ومادة علمية تربوية ذات أهداف اعتقادية وأخلاقية وتشريعية؛ لأنها سيرة الرسول الأسوة، والإمام القدوة صلى الله عليه وسلم، الذي لا يصح عمل ولا عبادة إلا باتباعه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر:7)، وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور:54).

ومن أهم هذه المزايا والسمات للسيرة النبوية الشمول والوضوح، فقد ثبتت تفاصيل سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم بصورة شاملة وواضحة في جميع مراحلها، منذ زواج أبيه عبد الله بأمه آمنة بنت وهب، إلى ولادته صلى الله عليه وسلم وطفولته وشبابه، ثم إلى بعثته ودعوته وهجرته، وكل ما مر به قبلها وبعدها، إلى يوم ولحظة وفاته صلوات الله وسلامه عليه، فكل من أراد أن يعرف تفاصيل حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطيع ذلك بيسر ومن مصادر صحيحة متعددة وثابتة؛ لأن المسلمين الأوائل اهتموا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسننه ومغازيه من قبل أن تُدوَّن الأحاديث تدويناً عاماً في آخر القرن الأول الهجري، إذ كانوا يحفظونها كما يحفظون السورة من القرآن، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم ، فكان علي بن الحسين رضي الله عنه يقول: "كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن".

وقد توفر لسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحفظ والصون ما لم يتهيأ لبشر من قبله، ولن يتوفر لكائنٍ منْ كان مِن بعده،  ما يجعلنا على يقين تام بصحة هذه السيرة، وأنها سيرة النبي الخاتم محمد بن عبد الله ـصلى الله عليه وسلم، إذ لم تُعْنَ أمةٌ من الأمم في القديمِ والحديث بآثار نبيِّها وحياته وكل ما يتصل به مثل ما عنيت الأمة الإسلامية بسيرة نبيها صلى الله عليه وسلم، والتي كانِ من آثارها هذه الثروة من الكتب المؤلفة والصحيحة في مولده وسيرته، وحياته وشمائله، وفضائله وخصوصياته، ومعجزاته وأخلاقه وآدابه، وأزواجه ونسبه، وخدمه ومرضعاته وحاضناته، وسراياه وغزواته...إلى غير ذلك، ما يدل على غاية الحب والعناية بآثاره، والدقة في تدوين كل شىء عن حياته وسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

وعلاوة على وضوح سيرته صلى الله عليه وسلم، فهي تتسم أيضاً بشمولها لكل النواحي الإنسانية في الإنسان؛ فهي توضح للمسلم حياة نبيه صلى الله عليه وسلم بدقائقها وتفاصيلها، منذ ولادته وحتى موته، مروراً بطفولته وشبابه ودعوته، وجهاده وصبره وانتصاره على عدوه، وكيف كان زوجاً وأًباً، وقائداً ومحارباً، ومربياً وداعية، وزاهدًا وقاضياً، فكل مسلم يجد بغيته فيها...فهي تحكي لنا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم الشاب العفيف المستقيم، الصادق الأمين من قبل أن يكرمه الله بالرسالة، فقد عُرِفَ النبي صلى الله عليه وسلم في قومه قبل بعثته بخلال عذبة، وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعفهم نفساً، وأوفاهم عهداً، وأشهرهم أمانة حتى سماه قومه: "الصادق الأمين"، فكانت قريش إذا ذهب أو جاء يقولون: جاء الأمين، وذهب الأمين، ويدل على ذلك قصة الحجر الأسود عند بناء الكعبة المشرفة بعدما تنازعت قريش في استحقاق شرف رفعه ووضعه في محله، حتى كادوا يقتتلون لولا اتفاقهم على تحكيم أول من يدخل المسجد الحرام، فكان محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من دخل عليهم، فلما رأوه قالوا: "هذا الأمين، رضينا، هذا محمد".

كما تحكي لنا سيرته صلى الله عليه وسلم الداعي إلى الله، المتلمس أحسن السبل والوسائل لقبول دعوته، الباذل منتهى طاقته وجهده في إبلاغ رسالته، ومعلوم أن هديه صلى الله عليه وسلم هو الميزان الذي توزن به الأعمال، فما كان منها موافقاً لهديه فهو المقبول، وما كان مخالفاً لهديه فهو مردود، يقول سفيان بن عيينة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تعرض الأشياء، على خُلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل".

وفي السيرة النبوية المنهج الصحيح والأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الله عز وجل، من حيث طريقته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه، وتواضعه مع المدعوين ورفقه بهم، وأساليب الدعوة ومراحلها، والوسائل المناسبة لكل مرحلة منها، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، والصبر والثبات أمام المحن والابتلاءات، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات، وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن...إلى غير ذلك من الأمور التي هي من مقومات الدعوة إلى الله، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف :108).

قال ابن القيم: "فلا يكون الرجل من أتباعه حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه، ويكون على بصيرة".

كما تروي لنا سيرته صلى الله عليه وسلم سيرة الرسول الزوج والأب في حنو العاطفة، وحسن المعاملة للزوجة والأولاد، فلم يمنعه زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وشدة خوفه من الله عز وجل، وكثرة عبادته، وعظم مسئولياته عن دوام بِشْرِهِ وطلاقة وجهه وملاطفته لأهله وأولاده، فكان يُولِيهم عناية فائقة ومحبَّة لائقة، فكان مع زوجاته حنوناً ودوداً، تجلّت فيه عواطف الأبوة في أرقى معانيها، ومشاعر الرحمة في أسمى مظاهرها، فكان يُكرم ولا يهين، يُوجِّه وينصح، ولا يعنِّف ويَجْرَح، ومع أولاده كان أباً حنوناً رحيماً، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي.

كما تعلمنا سيرته صلى الله عليه وسلم سيرة الرسول الصاحب، الذي يحب أصحابه ويحسن إليهم، ويتواضع معهم، ويجيب دعوتهم، ويزور مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويدعو لهم ولأبنائهم، ويمازحهم ويداعبهم، ويشفق عليهم ويقضي حوائجهم، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويعطى كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية والاهتمام، ويشاركهم آلامهم وآمالهم، ويشعر بأحزانهم ويخففها عنهم، ويحول ألمهم أملا، ومحنتهم منحة...ما جعل أصحابه رضوان الله عليهم يحبونه كحبهم لأنفسهم، وأكثر من حبهم لأهليهم وأولادهم وأقربائهم، حتى قال أبو سفيان رضي الله عنه قبل إسلامه: "ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً".

ففي معاملته صلى الله عليه وسلم لأصحابه من حُسن الخُلق واللين والحُب ما لا يخفي، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159).

كما يتعلم المربي من سيرته صلى الله عليه وسلم دروساً نبوية في التربية من خلال مواقفه مع أصحابه الذين رباهم، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًّا فريداً، وجعل منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها، فالمتأمل في حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم يعجب من فقهه في معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها، وعلاج ما بها من خلل، وتصحيح ما يظهر منها من انحراف في القول أو السلوك أو الاعتقاد، ولو أن االدعاة والمربين اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمواقفه التربوية مع أصحابه، وما فيها من حلم ورفق، ونصح وحكمة، لأثروا فيمن يعلمونهم تأثيراً يجعلهم يستجيبوا لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

كما يجد الحاكم والقائد في السيرة النبوية زاده وقدوته في أصول القيادة والسياسة، وإقامة العدل بين الرعية، فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أعدل الناس، وأبعدهم عن الظلم، فما ظلم أحداً، ولا حابى أحداً، ولا جار في حكم أبداً، ومن أخلاقه وصفاته التي عُرِف بها العدل في الرضا والغضب، فكان مثالاً للعدل مع أهله وأولاده وأصحابه، ووسع عدله القريب والبعيد، والصديق والعدو، والمؤمن والكافر، وقل مثل ذلك في القضاة والأغنياء والفقراء، وكل طوائف المجتمع، فكل أولئك إذا اتخذوا من السيرة النبوية المباركة أسوةً وقدرةً وجدوا فيها النور الذي يُسْتَضاء به في ظلمات الحياة، والمثل الأعلى الذي تنشده الإنسانية للوصول إلى الأمن والسعادة، قال الله تعالى واصفاً خلقه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3-4)، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور:54)، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} (الأحزاب:21).

وتعدُّ السيرة النبوية تجسيداً حيًّا للإسلام، فلا يستغني عن دراستها والنظر فيها أي مسلم، فهي دوْحة عظيمة فيها من كل الثمرات، كلُّ يقطف منها ما يناسبه، وكيف لا تكون كذلك، وهي سيرة نبينا وحبيبنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، والتي تشتمل على أدق تفاصيل حياته في المرحلة المكية والمدنية، بل ومنذ ولادته إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وتتميز وتختص بخصائص كثيرة، منها: الشمولية التي لا نجد مثلها ولا قريباً منها فيما بقي لنا من سير الرسل السابقين، ومؤسسي مناهج الإصلاح والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، ومن ثم تمر السنون والأعوام وتظل سيرته صلى الله عليه وسلم نبراساً وهادياً، يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح، والعزة والتمكين.

www.islamweb.net