من أشد الغبن أن نقصر تربية أبنائنا وتعليمهم على تصفح بطون الكتب فقط، فالعلم بحره واسع والتربية ساحة مترامية الأطراف ، من الحيف أن نركن لزاوية واحدة منها دون الأخذ بباقي معالمها وأبعادها خاصة في عصرنا الذي تنوعت فيه روافد الثقافة وتعددت فيه أشكال المعرفة، هذا مع تزاحم أحداثه وتقارب زمانه حتى صارت المهمات أكثر بكثير من الأوقات.
وإن قصرنا المعرفة والتربية على بطون الكتب وحدها - مع أهميتها- فأين يقع تعليم «القدوة الصالحة» ومتى نستفيد من «الوسائل الالكترونية» الحديثة المرئية والمسموعة، خاصة وأن التعليم بالرؤية أثبت في الذهن وأرسخ في السلوك إذا قورن بالتصفح البحت للمعلومات المجردة على صفحات الكتاب، ويبقى للتعليم بالممارسة والتطبيق الباع الأوفر من حيث الإيجابية، ولذلك كثرت في السلف الصالح رحلات السفر العلمية حيث كانوا ينتفعون برؤية العلماء ويتعلمون من سمتهم ودلهم كما ينتفعون بعلمهم، ورحم الله أم الإمام مالك التي أوصت ابنها لما أرسلته إلى «ربيعة» عالم زمانه، فقالت له موصية: «تعلم من أدبه قبل علمه».
ومع تشعب أحداث العصر وتنوع وسائله تشتت أفراد الأسر، فالأب غارق في ضغوط الحياة، والأم منهمكة مع الأولاد ومسئولياتهم، أما الأبناء فحدث عن المدرسة والواجبات المنزلية والنوادي الرياضية والكمبيوتر والإنترنت .. وغيرها من الظواهر التي اختطفت أبنائنا اختطافا وهم بين أحضاننا، والضحية الوحيدة في كل هذه المعمعة هو «التواصل الأسري» الذي بات عزيزا في كثير من المجتمعات رغم أهميته التربوية وعظم روعته التعليمية.
ورغم كل هذا التشتت تبقى «مائدة الطعام» أحد المجالات الصامدة أمام عاصفة التشرذم الأسري، حيث يجتمع كل أفراد الأسرة ليس للأكل فقط وإنما لتواصل حميمي فريد في كينونته عظيم في أهميته وفائدته بالنسبة للجميع.
على مائدة الأسرة نتبادل الحوارات مع أبنائنا عن شواغلهم والتزاماتهم العلمية والعائلية وعن معاناتهم وأحلامهم وطريقة تعاملهم مع الحياة .. لكن يبقى المحور الأعظم والهدف الأكبر هو التوجيه الأبوي والتعليم الهادف عبر مناقشة تصرفات وأفكار فلذات الأكباد حيث نتناولها بالتعزيز أو النقد والتعديل والتوجيه للأصوب من منطلق خبرتنا العملية وعمق تجاربنا الحياتية.
وتتجلى على مائدة الأسرة التربية بالقدوة العملية الحسنة، من منطلق التزام الأبوين بهدي السنة النبوية في آداب الطعام وهدي الإسلام في الصحة والغذاء، حيث يرى الأبناء تطبيقا فريدا للعديد من الآداب والتوجيهات الإسلامية الراقية:
- كم هو رائع أن يحرص الزوج عند أول دخوله المنزل وبعد إلقاء السلام أن يبدأ بسؤال الأولاد عن تواجد الوالدة ويذهب إليها ملقيا السلام ومقبلا رأسها تطيبا لخاطرها وإعلانا عن مشاعر الود والرحمة، فالزوجات عموما يعشقن الاهتمام الخاص من الزوج، ويثمنّ الإشارات واللفتات اللطيفة المفعمة بمشاعر الألفة والتقدير.
- ينبغي أن لا تقع مراسم تجهيز المائدة على عاتق الزوجة المنهكة في المطبخ وحدها، بل يتشارك كل الأفراد في حمل الأطباق وسائر الأغراض في جو مرح لطيف، وهذه المشاركة وإن كانت رمزية بالنسبة للزوجة إلا أنها تنطوي على معاني العرفان والمعونة بالقدر المستطاع، كما أنها تفتح شهية الصغار الذين يختارون لون طبقهم المفضل وكمية ونوعية الطعام المناسبة لديهم حسب الرغبة.
- من الهدي النبوي أن لا نعيب طعاما قط، فالنقد لنعمة الله تعالى نوعا من الجحود لفضل الكريم الوهاب، حتى وإن كانت تلك النعمة بسيطة في محتواها، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "ما عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله، وإن كرهه تركه". قال أهل العلم: وأما حديث تركه –صلى الله عليه وسلم- أكل الضب فليس هو من عيب الطعام، إنما هو إخبار بأن هذا الطعام الخاص كان –صلى الله عليه وسلم- لا يشتهيه.
- من الأدب أن لا يبدأ أحد الصغار بالأكل قبل أن يبدأ رب الأسرة أولا، وما أجمل أن يجهر الوالد بالتسمية عند بدأ الأكل تعليما للجاهل وتذكيرا للناسي .. «بسم الله» أو «بسم الله الرحمن الرحيم»، فإن نسي ذكر الله تعالى أثناء الطعام «بسم الله أوله وآخره»، فإنها تطرد الشيطان وتحل البركة في الطعام. وفي هذا الأدب قصة ما أجمل أن نرويها لأطفالنا أثناء الأكل لتكون أوقع في نفوسهم، بدلا من أن نستفرغ الحديث فيما لا طائل منه، فعن حذيفة –رضي الله عنه- قال: "كنا إذا حضرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم طعاما- لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاما، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها ثم ذكر اسم الله وأكل». [رواه مسلم]
- من سنن وآداب الطعام العملية: الأكل والشرب باليمين، والأكل مما يلي المرء، وأن لا يأكل من وسط الطبق لأن البركة تتنزل فيه، والاجتماع على الأكل وأن لا ينفرد كل واحد بطبق خاص قدر المستطاع، وأن لا يقرن المرء بين حبتين من الأكل مما يؤكل أفرادا كالتمر وحب الفواكه كالعنب والمشمش وغيرها، ويجوز الإقران في حال استئذان الجلوس، أما الشرب فعلى ثلاث مرات، وأن لا يتنفس في الكوب.
فعن عمر بن أبي سلمة –رضي الله عنه- قال: كنت غلاما في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، فما زالت تلك طعمتي بعد [متفق عليه] ، وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: «البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه». [رواه الترمذي وصححه] ، وعن وحشي بن حرب أَنَّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، إِنَّا نأكُلُ ولا نَشْبَعُ؟! قَالَ –صلى الله عليه وسلم-: «فَلَعَلَّكُم تَفْتَرِقُونَ عن طِعَامِكُم، فاجْتَمِعُوا علَيْه، واذكُرُوا اللَّه عزَّ وجل يُبَارِك لكم». [أبو داود]
- من التوجيه النبوي الذي يهمله كثير من الناس، قوله – صلى الله عليه وسلم-: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها. فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها. ولا يدعها للشيطان. ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه. فإنه لا يدري في أي طعامه البركة».[مسلم]
- من شكر نعمة الأمل حمد لله تعالى بعد الفراغ منه، فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رفعت المائدة قال: «الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي، ولا مودع، ولا مستغني عنه ربنا» [البخاري] .. (غير مكفي) من الكفاية، والضمير راجع إلى الله تعالى، فيكون المعنى: أنه تعالى هو المطعم لعباده والكافي لهم، يستغني عن غيره، وغيره لا يستغني عنه، وذلك مثل قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام:14] .. (ولا مودع) أي: غير متروك، لأنه لا يستغنى عن الله عز وجل طرفة عين .. (ولا مستغني عنه) أي: غير مطروح ولا معرض عنه بل محتاج إليه فهو سبحانه لا يستغنى عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو غني عن الخلق، والخلق مفتقرون إليه.
- شكر الزوجة على الطعام، وذكر وتعداد محاسنه، فمقولة الجالسين للأم «جزاك الله عنا خيرا» تطيب نفس الزوجة المكدودة، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
- ما أجمل أن نتشارك في رفع المائدة كما تشاركنا في تكوينها، ويا حبذا لو تشاركنا في غسيل الأطباق وترتيب الأواني كل في موضعه، فعن الأسود قال: سألت عائشة -رضي الله عنها-: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في أهله؟ قالت: "كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة". [البخاري] وفي رواية: قالت: "يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم". وفي رواية أخرى: "ما كان إلا بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه".