أم مِحْجَن رضي الله عنها، امرأة سوداء، لم يرد لها في السيرة النبوية تسمية سوى "أم محجن، أو محجنة"، كانت من ضعفة ومساكين أهل المدينة المنورة الذين ليس لها نسب تعتز به، ولا يُفْتَقدون إذا غابوا، وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى، قال ابن الأثير: " مِحْجَنَةُ امرأة سوداء، كانت تَقُمُّ المسجد، فتوفِّيَت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال ابن حجر في كتابه "الإصابة في تمييز الصحابة": "مِحْجَنَةُ: وقيل أم مِحْجَن، امرأة سوداء كانت تقمّ المسجد، وقع ذكرها في الصّحيح بغير تسمية".
وللنبي صلى الله عليه وسلم مع أم محجن رضي الله عنها موقف سجلته كتب السيرة النبوية، ففي إحدى الليالي ماتت رضي الله عنها، فصلى عليها جمعٌ من الصحابة رضوان الله عليهم، ودفنوها ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرها، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، اهتماماً بها، وإكباراً وتعظيماً لشأنها وما كانت تفعله من تنظيفها للمسجد، فأخبره أصحابه بما كان منهم تجاهها، فقال صلى الله عليه وسلم: (دلوني على قبرها)، ثم أتى قبرها حتى وقف عليه وصلَّى عليها..
وقد روى مسلم في صحيحه هذا الموقف النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأة سوداء كانت تقم (تنظف) المسجد ـ أو شاباً ـ ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها ـ أو عنه ـ فقالوا: مات (ماتت) قال: أفلا كنتم آذنتموني (أعلمتموني)، قال: فكأنهم صَغَّروا أمرَها (أو أمرَه)، فقال: دُلُّوني على قبرها، فدَلُّوه، فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى يُنوِّرُها لهم بصلاتي عليهم) راه مسلم.
وفي رواية للنسائي وصححها الألباني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: (اشتكت امرأة بالعوالي مسكينة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم عنها, وقال: إن ماتت فلا تدفنوها حتى أصلى عليها, فتوفيت, فجاءوا بها إلى المدينة, بعد العتمة, فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نام, فكرهوا أن يوقظوه, فصلوا عليها, ودفنوها ببقيع الغرقد, فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا, فسألهم عنها, فقالوا: قد دفنت يا رسول الله, وقد جئناك, فوجدناك نائماً, فكرهنا أن نوقظك, قال: فانطلقوا، فانطلق يمشي, ومشوا معه, حتى أروه قبرها, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصفوا وراءه, فصلى عليها, وكبر أربعا). وفي رواية عن ثابت عن أبى رافع عن أبى هريرة رضي الله عنه أن: (رجلاً أسود أو امرأة سوداء).
أكثر روايات الحديث على أنها امرأة سوداء ـ تُسَمَّى أم محجن رضي الله عنها ـ، قال ابن حجر: "قوله أن (رجلا أسود أو امرأة سوداء) الشك فيه من ثابت لأنه رواه عنه جماعة هكذا .. ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فقال: (امرأة سوداء) ولم يشك، ورواه البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن بريدة عن أبيه فسماها: أم محجن". وقال: "وفي الحديث فضل تنظيف المسجد, والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، وفيه المكافأة بالدعاء، والترغيب في شهود جنائز أهل الخير، وندب الصلاة على الميت الحاضر عند قبره لمن لم يُصلِّ عليه, والإعلام بالموت".
وقال القاضى عياض: "وفى حديث السوداء هذا: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تفقد أحوال ضعفاء المسلمين، وما جُبِلَ عليه من التواضع والرأفة والرحمة بأمته".
وقد ذكر ابن عثيمين لهذا الموقف النبوي فوائد كثيرة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعظم الناس بحسب أعمالهم، وما قاموا به من طاعة الله وعبادته.. ومنها: جواز تولي المرأة لتنظيف المسجد، وأنه لا يُحْجَر ذلك على الرجال فقط، بل كل من احتسب ونظف المسجد فله أجره، سواء باشرته المرأة، أو استأجرت من يقم المسجد على حسابها.. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولهذا قال: (دلوني على قبرها)، فإذا كان لا يعلم الشيء المحسوس فالغائب من باب أولى، فهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وقد قال الله له: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50).. ومنها: مشروعية الصلاة على القبر لمن لم يصلِّ عليه قبل الدفن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على القبر حيث لم يصلّ عليها قبل الدفن .. ومنها: حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وأنه كان يتفقدهم ويسأل عنهم، فلا يشتغل بالكبير عن الصغير، كل ما يهم المسلمين فإنه يسأل عنه صلى الله عليه وسلم.
تفقد الغائب:
تَفَقُّدُ الشخصِ هو: السؤال عنه، ومعرفة سبب غِيابه، وتقديم يد العون له إذا كان في حاجة وشدة، وزيارته إن كان مريضاً، وهو خُلُقٌ نبوي كريم، فمن شمائله وصفاته صلى الله عليه وسلم التي عُرِف بها أنَّه: (يَتفَقَّد أصحابَه، ويسأل الناسَ عمَّا في الناس) رواه الطبراني، فمع عظيم انشِغاله ومسئولياته فإن من هديه وسنته صلى الله عليه وسلم السؤال عمَّن غاب، وهذا كثيرٌ في سيرته المشرفة، فعن أنس بن مالك رضِي الله عنه: "أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم افتَقَد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه..) رواه البخاري، وعن عبد الله بن بُرَيْدَةَ عن أبيه رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَتَعهَّد الأنصار ويَعُودُهم ويَسأل عنهم) رواه الحاكم وحسنه الألباني، ومن ذلك تَفَقُّده صلَّى الله عليه وسلم لأم محجن رضي الله عنها.
لا تحتقر من المعروف شيئا:
لم يكن أم محجن أن تُعْرَف ويُذْكَر اسمها في السيرة النبوية ويعرفه المسلمون إلا لعملها الذي كانت تقوم به، والذي قد يبدو حقيراً في أعين بعض الناس، ومن ثم ففي هذا الموقف النبوي معها عنها رسالةٌ إلى كلِّ مسلم: ألاَّ يحتَقِر من العمل شيئاً، فرُبَّ عملٍ صالح صغَّرَتْه الأعين، كان سبباً لرضا الرحمن، والفوز بالجنان، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحتقر من المعروف شيئا) رواه مسلم، وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عُرِضَت عليَّ أعمال أمتي حَسَنُها وسيئُها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق) رواه مسلم.
لقد كانت أم محجن رضي الله عنها امرأة ضعيفة مسكينة، تنظف المسجد، وتلتقط منه الأذى، ومع ذلك سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخْبِرَ بموتها ودفنها، قال لأصحابه الذين قاموا بدفنها: (دلّوني على قبرها)، ولم يقف الموقف النبوي عند حدود السؤال، بل قام صلوات الله وسلامه عليه بالذهاب إلى قبرها، وصلّى عليها مع بعض أصحابه، مع استغفاره ودعائه لها، لتحظى في قبرها بالنور الذي يزيل عنها ظلمة القبر ووحشته، فصلاته ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لها سكن ورحمة، ونور وضياء.. فهنيئاً لأم محجن رضي الله عنها هذا الجزاء الذي تتطلع إليه القلوب، وتشرئب نحوه الأعناق، كيف لا؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ هذه القُبُور مملوءَة ظلمَة على أهلها، وإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُنوِّرُها بصلاتي عليهم) رواه مسلم.