ثمة اتجاه فلسفي قديم يميل إلى ترجيح القول بتشابه الأقطاب، ويبلغ العدوة القصوى في الإغراب حين يقول بأن الأضداد المتنافرة مهما تعاكست مظاهرها واختلفت أعراض ظواهرها فإنها في النهاية تؤدي إلى نتائج متشابهة إلى حد التماثل بل والتطابق أحيانا، ومن العجيب أن العلامة ابن حزم يبدو في بعض فصول كتبه متبنيا هذا المنطق الديالكتيكي؛ حيث يقول: " الأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام؛ فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فعل فعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين! "، وقد يبدو للقاريء أننا أيضا متبنين ذات المنطق حين نقول إن الحبس يفتق حرية الإبداع وتقييد حرية الأشخاص إطلاق لمكامن الإبتكار داخل ذواتهم في كثير من الحالات.
أدب السجون أو (السِّجْنِيات): هي تلكم الأعمال الأدبية التي كتبت خلف القضبان أو صنعت لتحليل الظواهر النفسية للحياة خلف القضبان، قد يبدو عجيبا أن نقول إن فلسفة الحرية في السجنيات أكثر صفاء وعمقا من كل الأعمال الأخرى التي عالجت فلسفة الحرية في الحرية؛ فالسجنيات تغوص في أعماق النفس البشرية إلى أبعاد غائرة تتناول خطراتها ... أوهامها ... تهيؤاتها ... تصوراتها بالتحليل والملاحظة والدراسة على أساس المشاهدة، كل ذلك الإبداع تتفتق عنه النفس البشرية حين تقيد حركتها وتفقد حريتها، وكأن غواشي الغدو والرواح كانت تلبد بغيومها سماء هذا الإبداع وتمنعه أن يطفو على السطح، ومن أهم الشواهد على ذلك ذلكم الكم الهائل من ملكات الإبداع التي ازدحمت في سماء الأسارى؛ فكم من سجين أصبح أديبا بعد أن ذاق طعم القيد وتفتقت مدارك الإبداع في قريحته بعد أن عايش عن قرب تجربة النظر إلى الدنيا من ورائها عبر شباك الحديد من غير النافذة التي ينظر منها أهلها المتحكمون في التصرف فيها، وقد يبدو الأمر متفهما من ناحية أن السجين يعاني ضيقا في المكان ووفرة في الزمان يلجؤه إلى الهروب نحو الحرية، وأيا ما كان الأمر فإن أساطين أدب الأحباس تميز أدبهم عموما بالتغني بأمجاد الماضي والتباهي بسالف عهودهم والتذكير بما كانوا عليه قبلا من حال، وكأنهم بذلك يحاولون كسر معادلة الصورة بالكلمة والحاضر بالماضي؛ فلئن أصبحوا محبوسين مستكرهين مقهورين فلقد ظلوا زمنا قاهرين أعداءهم منتصرين في معارك الخصام متصرفين دون قيد في شؤونهم وشؤون غيرهم.
تتابع على ترديد هذا النغم والتذكير بتلكم الصورة أفراد وزرافات من سادات السجون وأباطرة الأَسْر، يأتي في مقدمتهم عبد يغوث الحارثي الذي كان سيدا مطاعا في قومه؛ فأمسى ذات ليلة وهو الفارس الشجاع الآمر الناهي في بني الحارث بن كعب وما جاورهم من القبائل ثم لم تغرب عليه شمس ذلك اليوم إلا وهو أسير في بعض قبائل اليمن لا يملك حرية التصرف حتى في نفسه التي بين جنبيه، فتفتقت ملكته الشعرية بقصيدة من عيون الشعر العربي؛ يعدها بعض نقاد العرب أجود ما قيل في اليائيات وأن كل ما جاء بعدها في بحرها ورويها إنما قصد إلى معارضتها، ولما وقع فارس حمدان وأميرها في أسر الروم أنشأ قصائد طنانة عرفت بعد ذلك بالروميات تكاد تكون أجود شعره على كثرة الجيد فيه، وما زالت الصورة التراجيدية الحزينة التي رسمها المعتمد بن عباد وهو حبيس في أغمات لبناته وهن في أطمار باليات حافيات الأقدام يغزلن للناس ما يملكن قطميرا لا زالت هذه الصورة تهز وجدان الأدب العربي وتدغدغ خبيئات مكامن الحزن فيه مما يدل على حجم تأثيرها .
إلى جانب هذه القصائد والدواوين الشعرية التي تفجرت ينبوعا رقراقا للإبداع والإمتاع من داخل عذابات السجون وآهات الأسارى تميز أدب السجون بنمط آخر من الإنتاج وهو الرواية الواقعية؛ وهي نمط أدبي يؤرخ لجحيم السجن وعذاباته ومآسيه ويصوغها في قالب قصصي أدبي يسحب قارئه من عالم حريته الواقعي الذي يعيش ويهوي به إلى قعر غيابات الحبس ليتقمص دور السجين ولتسرد عليه الأحداث وكأنه يعيشها والمآسي وكأنه يعايشها، ببكائية نازفة تجسد ما يعانيه السجين من وجع لا ينتهي، ويتميز هذا النوع من الروايات بالجاذبية والتشويق والإمتاع، ومعظمه يأتي على شكل سير ذاتية يسجلها بعض من تعرضوا للسجن .
هذا الشكل من الأدب – بشقيه الشعري والروائي - يبعث على الحزن وهو أصدق مشاعر النفس الإنسانية؛ ولذا فإن هذا النوع من الأدب رغم أنه سيق لأغراض فنية إلا أنه يكتسب مصداقية واضحة من بين كافة الأعمال الفنية نسبة لأنه يحكي عن تجارب واقعية غالبا، وأمر آخر يميزه وهو أن كتاب هذا النمط الأدبي لديهم دافعية قوية لمواجهة النسيان؛ وهذا ما يفسر حرصهم الشديد على نشر أعمالهم وتدبيجها حتى على شواهد قبورهم إمعانا في التعبير عن ذواتهم المكبوتة، ثم هم مدفوعون بعبء ثقيل تحمله أحلامهم وذكرياتهم فلا يجدون إلا الكتابة متنفساً .
تجدر الإشارة إلى أن هذه الحقبة من الزمان تشهد تناميا غير مسبوق لهذا النوع من الأدب خاصة في شقه الروائي فروايات الناجين من عتمات سجون "أنظمة القهر"، ومن قدر لهم استرداد حريتهم مع الاحتفاظ بعقولهم وصحتهم الذهنية من سجناء جوانتنامو وأبو غريب السابقين، إلى غيرهم من خريجي معتقلات حطمت الرقم القياسي في الوحشية والتعذيب والتسلط والإمعان في سلب إرادة الإنسان كل هؤلاء وغيرهم أثروا الساحة بأعمال أدبية عملاقة، وأثبتوا قوة الإرادة الإنسانية وتفننوا في إيصال المعانات إلى عالم الحرية من عوالم اللاحرية، كما نجحوا في توصيف أبعاد ردات النفس البشرية ضد الكبت والقهر والذل والاستبداد، في فن واقعي جديد لم يكن - ربما - ليخطر على ذهن أوسع صانعي أفلام الرعب إثارة .