حَجّة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

23/10/2016| إسلام ويب

في العام التاسع من الهجرة النبوية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج، ليقيم بالمسلمين المناسك، فخرج من المدينة المنورة مولّيا وجهه شطر المسجد الحرام، ونزل الوحي بسورة براءة (التوبة) بعد انصراف أبي بكر رضي الله عنه ووفد الحجيج، فأشير على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث بالآيات إليه ليقرأها على أهل الموسم كافّة.
قال ابن كثير في تفسيره: "هذه السورة الكريمة (التوبة) من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال البخاري .. وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج، ثم ذَكَرَ أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم، فبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج هذه السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويُعْلِم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي في الناس ببراءة، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مُبّلغاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكونه عصبة له".

رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل بهذه الآيات من سورة التوبة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: (لا يؤدّي عنّي إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليًّا فقال له: اخرُجْ بهذه القُصَّة مِنْ صَدْرِ بَراءَة وَأَذِّنْ في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بِمِنًى: أنه لا يدخل الجنَةَ كافر، ولا يَحُجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريانٌ، ومَنْ كان له عند رسول الله عهدٌ فهو إلى مُدَّته. فخرج عَلِيٌّ يَمْتطي العَضْباء - ناقة رسول الله - حتى أدرك أبا بكرٍ بالطريق، فلما رآه أبو بكر سأله: أَأَميرٌ أَمْ مأمور؟ قال: بل مأمورٌ، ثم مَضَيَا) رواه ابن هشام وابن كثير في السيرة النبوية وحسنه الألباني.

قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإعلان الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكر ابن هشام وابن كثير وغيرهما ـ: "حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان". 
وعن زيد بن يثيع: سألنا علياً: بأيّ شيء بُعِثْتَ في الحجة؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدّته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر) رواه أحمد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) رواه مسلم. وكان هذا النداء بمثابة إعلان نهاية الوثنية في جزيرة العرب بعد هذا العام.

فائدة:

كلف النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج, مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم في عقد العهود ونقضها, بألا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العُرْف ليس فيه منافاة للإسلام، ومن ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بذلك, فهذا هو السبب في تكليفه بتبليغ صدر سورة براءة, لا كما زعمت وادَّعت الشيعة الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن علياً أحق بالخلافة من أبي بكر, فهذا ادعاء باطل وواضح من قول أبي بكر لعلي رضي الله عنهما: (أَأَميرٌ أَمْ مأمورٌ؟ قال (عليّ): بل مأمور)، فكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير؟!!.
قال ابن تيمية في كتابه منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية: "فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسِّيَرِ والحديث والفقه وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر عَلَى الْحَجِّ عام تسع، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله حج في الإسلام، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة، فإن مكة فتحت سنة ثمان، أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة، ثم أَمَّرَ أبا بكر سنة تسع للحج، بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وفيها أَمَرَ أبا بكر بالمناداة في الموسم: (أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)، وَلَمْ يُؤَمِّرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية، فولاية أبي بكر كانت من خصائصه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لَمْ يُؤَمِّرْ عَلَى الْحَجِّ أَحَدًا كَتَأْمِيرِ أبي بكر، ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر، وكَان عَلِيٌّ مِنْ رَعِيَّته في هذه الحجة، فإنه لحقه فقال (أبو بكر): أَأَميرٌ أَمْ مأمور؟ فقال عليّ: بل مأمور، وكان عليّ يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه، وَنَادَى عَلِيٌّ مع الناس في هذه الْحِجَّةِ بِأَمْرِ أبي بكر".

الحج إلى بيت الله الحرام مما ورثه العرب عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من بقايا الحنيفية التي ما زالوا محافظين عليها، إلا أن كثيراً من أدران الجاهلية وأباطيل الشرك قد تسلل إليه، حتى أصبح مظهراً من مظاهر الشرك أكثر من أن يكون عبادة قائمة على عقيدة التوحيد، ومشاركة النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحج ربما يؤدي إلى ضرر بالمسلمين وشعائرهم، لأن المشركين يعارضون بتلبيتهم تلبية المسلمين، فإن قال المسلمون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، قال المشركون: إلا شريكاً هو لك، كما أنهم يطوفون بالبيت عرايا، ويرفعون أصواتهم بمعتقداتهم وأقوالهم الشركية، ـ وليس هناك ما يمنعهم من حج بيت الله لما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من عهد ـ، وفي ذلك إفساد لمعاني الحج، ولذا كان من الحكمة أن لا يحج النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحجة، ومن ثم استعمل عَلَىَ هذا الحج أبا بكر الصديق رضي الله عنه.

لقد كانت حجة أبي بكر رضي الله عنه إعلاناً على أن عهد الشرك قدْ تولى وانتهى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يُسلموا، ويستجيبوا لنداء التوحيد، ومن ثم فبعد هذا الإعلان الواضح والقوي الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة العربية، أيقنت القبائل العربية أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى بالفعل, فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد، ثم كانت حجة النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي بعده ـ العاشر ـ, ومعه أكثر من مائة ألف من المسلمين، والتي عُرِفت بحجة الإسلام، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج غيرها، وحجة الوداع، فقد ودَّع الناس فيها ولم يحج بعدها, وعُرِفت كذلك بحجة البلاغ لأنه صلى الله عليه وسلم بلّغ الناس شرع الله في الحج قولا وعملا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه صلوات الله وسلامه عليه, وقد أنزل الله عز وجل عليه بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(المائدة: 3).

www.islamweb.net