من الآيات القرآنية التي تناظرت في معظم ألفاظها، وافترقت في بعضها، الآيتين التاليتين:
قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وأتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} (المائدة:20).
قوله عز وجل: {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} (إبراهيم:6).
ففي آية سورة المائدة خاطب موسى عليه السلام قومه بأداة النداء والإضافة إلى ضميره، فقال: {يا قوم} في حين أن آية سورة إبراهيم لم تتضمن نداء موسى لقومه.
ولسائل أن يسأل، فيقول: هل للتنبيه في سورة المائدة بقوله: {يا قوم} فائدة، لم يكن مثلها في الخطاب الواقع في سورة إبراهيم، ولما لم يقل فيه: {يا قوم} كما قال في سورة المائدة؟
أجاب الخطيب الإسكافي على هذا السؤال بما حاصله: إن تسمية المخاطب بندائه مع إقبالٍ عليه، يفيد مبالغة في التنبيه له؛ فإذا قال القائل: افعل كذا يا فلان، فكأنه قال: أعينك بخطابي لا غيرك، ممن يصح لأن ينصرف الخطاب إليه، ألا ترى أنه إذا عُرِي من النداء صَلَح لكل مخاطب، فإذا قارن النداء فعل أمر، كان مقصوراً على صاحب الاسم الذي دخله حرف النداء، والمبالغة في التنبيه حقها أن تكون في الأهم الأعم نفعاً.
فقوله تعالى في آية سورة المائدة: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا} الآية، يصح أن يجاب عنه بجوابين:
أحدهما: أن يقال: لما نبههم على ما خصهم به من الإكرام؛ ليشكروا على هذه النعم العظام، بأن جعل فيهم أنبياء مقيمين بين ظهرانيهم، يدعونهم إلى طاعة ربهم، ويثنونهم عن المحظور من شهواتهم، وأن جعلهم ملوكاً حيث أغناهم -بما أنزل عليهم من المن والسلوى- عن الحاجة إلى الناس في التماس الرزق من أمثالهم، وتكفل خدمتهم وأعمالهم، وبما ملكهم من المال والعبيد والإماء، الذين كانوا يخدمونهم ويكفونهم ما يحتاجون إلى مباشرته بأنفسهم. والمنَبَّه عليه في هذا المكان أشرف ما يخوله الإنسان، من النبوة التي لها أشرف منازل الثواب، والمـُلك الذي هو غاية ما تسموا الهمم في دار التكليف إليه، فنبهوا بأبلغ الألفاظ؛ ليقوموا بشكر ما عليهم من الإنعام. أما الآية التي في سورة إبراهيم، ففيها تنبيه على ما صرف عنهم من البلاء والعذاب، وليس هو كالتنبيه على تخويل أشرف العطاء مع صرف البلاء.
وجواب ثان: وهو أن المن والسلوى مما لم يُنْعِم به على أحد قبل بني إسرائيل ولا بعدهم؛ فلذلك قال: {وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} (المائدة:20)، فإذا نُبهوا على شكر نعمة خُصوا بها دون الناس كلهم، كانت المبالغة في ذلك أولى.
وجواب ثالث: وهو أن يقال: لما جعل الخطاب بعد قوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير} (المائدة:15) وقوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل} في آيتين، وصدر المخاطبات بأداة النداء، نبه فيها المخاطبين بمناداتهم فيما حكى من أقوالهم، كقوله تعالى بعده: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} (المائدة:21)، وقوله: {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين} (المائدة:22) وقوله: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها} (المائدة:24)، وبعده قوله: {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} (المائدة:25)، كان الاختيار أن يجري مجرى نظائره المتقدمة والمتأخرة، ولم يكن شيء من ذلك في الآية التي في سورة إبراهيم، فلم يذكر هناك {يا قوم} لأجل هذا.
وقريب من جواب الإسكافي أجاب ابن الزبير الغرناطي عن توجيه ما جاء في كل من الآيتين، فقال: لما اعتمد في آية المائدة تذكيرهم بضروب من الآلاء، والنعم الجسام، من جَعْل الأنبياء فيهم، وجَعْلهم ملوكاً، وإعطائهم ما لم يعطِ غيرهم؛ كل ذلك تعريفاً باعتنائه سبحانه بهم، وتفضيلهم على من عاصرهم، وتقدمهم على أمم الأنبياء قبلهم، فناسب ذلك نداء موسى عليه السلام بقوله: {يا قوم} بالإضافة إلى ضميره؛ إخباراً بالقرب والمزية، وناسب هذا النداء المنبئ بالاعتناء ما تقدم من تخصيصهم بما عقَّب به النداء من التشريف بما منحهم من الآلاء والنِّعم الجسام. ولما قصد في آية سورة إبراهيم تذكيرهم بنجاتهم من آل فرعون، وما كان يسومهم به من ذبح ذكور أبنائهم، واستحياء نسائهم للمهنة، ولم يذكر هنا شيء مما في آية المائدة؛ لما اقتصر عليه هنا من التذكير بمجرد الإنجاء، ناسب ذلك الاقتصار على خطابهم دون النداء؛ رعياً للمناسبة.
وذكر ابن جماعة -وتبعه الفيروز آبادي- في توجيه ما جاء في كل من الآيتين نحواً مما ذكره الخطيب الإسكافي وابن الزبير الغرناطي.