نبينا صلى الله عليه وسلم أبر بني الدنيا وأوفاها، وما وُجِدَ على الأرض أنقى سيرة وسريرة، وأوفى بوعد وعهدٍ، وأحسن وأعظم خُلق منه صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى مثنيا على شمائله وأخلاقه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4). ووفاء النبي صلى الله عليه وسلم شمل المؤمن والكافر، والصديق والعدو، والكبير والصغير، وكان لكل صنف من الناس نصيب من وفائه
وفيَّ العهْدِ ذو كرمٍ وصدْقٍ شمائله السماحة والوفاء
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجته خديجة :
السيرة النبوية زاخرة بالمواقف الدالة على حب ووفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته عامة، ومع زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها خاصة، فقد عرف لها فضلها، فهي من نعم الله الجليلة عليه، وأول من صدقه وآمن به، ووقفت بجانبه وآزرته في أشد وأصعب الأوقات، وأعانته على إبلاغ رسالته ودعوته، وشاركته آلامه وآماله، وواسته بنفسها ومالها، وقالت مطمئنة له في أول نزول الوحي عليه: (والله لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق). قال ابن الأثير: "خديجة أول خلق اللَّه أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة "، وقال ابن العربي: "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها، فرعاها حية وميتة، وبرَّها موجودة ومعدومة، وأتى بعد موتها ما يعلم أنه يسرها لو كان في حياتها".
وصور ومواقف وفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجته خديجة رضي الله عنها كثيرة، منها:
ذكرها بالخير بعد موتها:
قد يفارق الزوج زوجته إما بطلاق أو موت، ومع استحداث زوجة أخرى قدْ ينسى الزوج فضائل زوجته الأولى، وربما يمدح زوجته الجديدة رغبة في إرضائها، متناسياً للزوجة المتوفاة فضلها، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً عالياً للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان يعامل خديجة رضي الله عنها في حياتها بغاية الإحسان والإكرام والتقدير، وبعد موتها ظل يذكرها ويثني عليها ويعدد فضائلها، ولا شك أن الوفاء للميت بعد وفاته مأثرة وخصلة بديعة، ومن مظاهر وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها: أنه دائما ما كان يذكرها بلسان محبٍ يعرف فضلها ومناقبها، ولما رأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم يُكْثِر من ذكر خديجة رضي الله عنها، قالت: (ما غِرْتُ على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة، هلَكَتْ (ماتت) قبل أن يتزوَّجني، لِما كنتُ أسمعه يذكرها) رواه البخاري. وفي رواية قالت عائشة رضي الله عنها: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة)، فكان صلى الله عليه وسلم يرد بقوله: (إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد) رواه البخاري.
قال النووي: "في هذا الحديث دلالة حسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً".
وفي رواية لأحمد أن عائشة رضي الله عنها قالت: (والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير).
إكرام صديقاتها وجيرانها :
كان صلى الله عليه وسم يكرم صديقات خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها (صديقاتها) منها ما يسعهن) رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنها كانت تحب خديجة) رواه الحاكم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت عجوزٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنتِ؟ قالت: أنا جثَّامةُ المُزنيَّة، فقال: بل أنتِ حسَّانةُ المُزنيَّة، كيف أنتُم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتُم بعدنا؟ قالت: بخيرٍ بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله، فلما خرجت قلتُ: يا رسول الله تُقبِلْ على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإنَّ حُسْن العهد من الإيمان) رواه الحاكم . قال السخاوي: "(وإنّ حسن العهد) ينصرف لغة إلى وجوه، أحدها: الحفظ والرعاية، وهو المراد هنا. أي: الوفاء والحفظ، ورعاية العهود القديمة، ورعاية من يحبّك أو يحبّ من يحبّك، (من الإيمان) أي: من أخلاق أهله وخصالهم، أو من شعب الإيمان ومقتضياته، لأن من كمال الإيمان مودّة عباد الله ومحبّتهم" .
الدعاء لها بعد موتها :
من صور حبه ووفائه صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها أنه كان يدعو ويستغفر لها بعد موتها، وهذه صورة من صور الوفاء للزوجة ولغيرها من أصحاب الحقوق والفضل بعد موتهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم (إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناء عليها واستغفار لها) رواه الطبراني، فالاستغفار للميت من خير ما يهدى إليه، وهو دليل حب ووفاء .
قلادة خديجة :
من صور حبه ووفائه صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها: موقفه صلى الله عليه وسلم مع قلادةٍ لها كانت أهدتها لابنتها زينب رضي الله عنها عند زواجها، وقد حدث هذا الموقف بعد انتهاء غزوة بدر، وروته عائشة رضي الله عنها فقالت: (لما بعث أهل مكة في فداء أُسَرائِهم بعثت زينب في فداء أبي العاص (زوجها الذي لم يكن أسلم بعد) بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رِقَّةً شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها! فقالوا: نعم.. " رواه الحاكم وأبو داود.
رغم كثرة مسئولياته وشدة انشغاله صلى الله عليه وسلم، ورغم مرور سنين طويلة، فقد عرف قلادة زوجته خديجة رضي الله عنها التي أهدتها لابنته زينب عند زواجها، وتأثر ورقَّ لما رآها .. قال الطيبي: "قولها: (رقَّ لها) أي تذكر غربتها ووحدتها، وتذكر صلى الله عليه وسلم عهد خديجة وصحبتها، فإن القلادة كانت لها، فلما زوجتها من أبي العاص أدخلت القلادة مع زينب عليه". وقال الهروي: "أي لغربتها (زينب) ووحدتها، وتذكر عهد خديجة وصحبتها فإن القلادة كانت لها وفي عنقها".
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها، وتحمّلت معه الشدائد والمصاعب، فكانت نِعْم اليد الحانية عليه، ووقفت بجانبه بنفسها ومالها، ورزقه الله منها الولد، وماتت وعمره صلى الله عليه وسلم خمسون سنة، ولم يتزوج عليها امرأة أخرى طوال مدة زواجها التي استوعبت شبابه، رغم أن هذا الأمر ـ تعدد الزوجات ـ كان شائعاً في ذلك الوقت، وهذا من جملة الخصائص التي اختصت بها أم المؤمنين خديجة عن جميع زوجاته.
قال ابن حجر في فتح الباري: "ومما كافأ النبي صلى الله عليه وسلم به خديجة في الدنيا: أنه لم يتزوج في حياتها غيرها، فروى مسلم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت)، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار، وفيه دليل على عظم قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها، واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما، انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاما، وهي نحو الثلثين من المجموع، ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك، وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها".
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الذكر لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، والثناء عليها، والإشادة بفضائلها، وكان يقول عنها: (إني قد رزقت حبها) رواه مسلم .