يعد فن البحث والمناظرة، وما يتطلبه من آداب ومنهجيات خاصة، من المباحث والفنون العلمية التي اهتم بها علماء الإسلام قديما وحديثا، ودرسوها دراسة مستوعبة، وتعمقوا فيها ومارسوها نظريا وعمليا؛ بهدف توسيع آفاقهم وصقل مداركهم وإقناع الغير بآرائهم واجتهاداتهم، ومن ثم تعاطوا مع هذا الفن ومارسوه في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، ولم يخل أي عصر من العصور الإسلامية من وجود مناظرات ومحاورات ومناقشات في هذا العلم أو ذاك، وبين هذا أو ذاك، أو في هذه المسألة أو تلك من المسائل التي تكون مجال بحث ومناظرة تثري البحث العلمي وتبين قيمة فكر هؤلاء العلماء الأجلاء.
ولئن كان فن البحث والمناظرة وآدابه ومنهجه قد عرف بين العلماء واشتهر في بلاد الشرق الإسلامي، فإنه عرف وانتشر كذلك في بلاد الغرب الإسلامي -المغرب والأندلس- بحكم ما أنجبت هذه البلاد من علماء كبار، التقى علمهم بعلم الشرق، فكون ذلك الرصيد العلمي الهائل، والثراء الفكري والحضاري الكبير الذي لايزال جله حبيس المخطوطات.
يقول أبوزهرة: "وقد عني العلماء في الإسلام بالجدل والمناظرة عناية شديدة من يوم أن نشب الخلاف الفكري بين العلماء ورجال الفكر في هذه الأمة، وانتهت عنايتهم بوضع قواعد لتنظيم الجدل والمناظرة، لكي يكونا في دائرة المنطق والفكر المستقيم، أسموها علم الجدل أو علم أدب البحث والمناظرة"
وهكذا اندرج المسلمون والنصارى بالأندلس معا ضمن ذلك التقليد، وأسهموا في هذا الرصيد التاريخي والثقافي والمعرفي بها. وقد جمعت المناظرة الدينية بين الإسلام والنصرانية منذ أن اضطرهما التاريخ إلى الالتقاء ببعضهما، فدفعت بالإسلام والمسيحية إلى الانخراط معا في تقليد التعايش والمثاقفة بينهما على أرض الأندلس. ولقد عبرت عن أجزاء من تمظهرات هذا الواقع، أعداد من كتب المناظرات الدينية التي كانت تعقد باستمرار، عمل بعض المهتمين بموضوعها على إخراج بعض متونها وتحقيقها؛ ومن بينهم يمكن أن نذكر عبدالمجيد التركي، وعبدالمجيد الشرفي، ومحمد رزوق، وغيرهم.
يقول د. عبدالواحد العسري: " لم تتبلور بالأندلس مناظرات جدلية دينية بين النصارى والمسلمين خلال الفترة نفسها التي ظهرت فيها بالشرق الإسلامي، بيد أنه بمجرد ما وصلت رسالة عبدالمسيح الكندي إلى الأندلس، أخذ النصارى في إنتاج ردود ضد الإسلام على منوالها، ووفقا لمحتوياتها.
ويعد كتاب أبي الوليد الباجي (ت 474هـ) "المنهاج في ترتيب الحجاج" أهم الكتب التي اعتنت بفن المناظرة والجدل، ويعتبر الباكورة في هذا الفن في الغرب الإسلامي (الأندلس)؛ موطنه، وقد اتسم الباجي بطابع الثقافة الفقهية الأصولية الجدلية الشاسعة والجامعة، فهو الفقيه المالكي الوحيد الذي استطاع أن يجادل الفقيه الظاهري ابن حزم في المجالس التي كانت تعقد بدعوة من الأمير ابن رشيق، بعد رجوعه من رحلته المشرقية، كما شهد بذلك مؤرخ المالكية القاضي عياض في ترتيب المدارك. وقد ذكر الباجي ذلك في مقدمة كتابه فقال: "ولو تأملت ما في كتابنا هذا من هذه الطريقة؛ لرأيته كله مأخوذا من الكتاب والسنة ومناظرة الصحابة، وإنما للمتأخر في ذلك تحرير الكلام وتقريبه من الأفهام"
ولقد سطر مفكرو الإسلام منذ العهود الأولى شروطا وآدابا لهذه المناظرات، ووضعوا ضوابط علمية لإقامتها؛ خشية الانزلاق بها إلى متاهات عقيمة لا طائل من ورائها، وقد رسم ابن خلدون في المقدمة معالم هذا العلم، ومسوغاته وغاياته فقال: "فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا، وكيف يكون مخصوصا منقطعا، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال، ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه"
ويقول د. حبنكة الميداني: "ولما كان الجدال في الواقع الإنساني من الوسائل التي تستخدم لنشر الأفكار والإقناع بها، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، والجدال سلاحه للدفاع عن أفكاره؛ فقد أمر الإسلام به للدفاع عن الحق الإسلامي؛ مشروطا بأن يكون بالتي هي أحسن.. فقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46).. ومن هذا يتحصل لدينا أن الجدال للوقوف على الحق لإقناع الناس به عمل محمود.. أما الجدال انتصارا للنفس ورغبة بالاستعلاء والغلبة فهو عمل مذموم، وقد يكون حراما إذا كان فيه طمس للحق أو تضليل للمناظر"
وشهد تاريخ المسلمين عددا كبيرا من هذه المناظرات منذ الفجر الأول؛ ولنا في سيرة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" الأسوة في ذلك حين أتاه أحد مبعوثي قريش - عتبة - يفاوضه فقال له رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «أفرغت؟ قال: نعم. قال: فقال رسول الله " صلى الله عليه وسلم": {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } (فصلت:1-2) حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَعِقَةً مِّثْلَ صَعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13). فقال عتبة: حسبك حسبك» (6). وحفظ لنا التاريخ نماذج لمناظرات أجراها بعض علماء الإسلام مع مختلف الفرق وأهل الديانات؛ كمناظرة عبدالله بن عباس "رضي الله عنه" مع الحرورية فيما أنكروه على علي "رضي الله عنه" . ومناظرة اليهودي لمسلم في مجلس المرتضى. ومناظرة في الرد على النصارى من تأليف فخر الدين الرازي. وجهود الفقيه أبي بكر الطرطوشي (ت 520هـ) في الجدل مع اليهود؛ ثم الرسالتان موضوع هذه المشاركة: رسالة راهب فرنسا إلى الأمير الأندلسي المقتدر بالله الأندلسي حاكم سرقسطة يدعوه فيها إلى الدخول في النصرانية، وجواب الفقيه أبي الوليد الباجي عليها، والتي تبقى أهم هذه المناظرات وأشهرها، وقد تم تحقيقها ونشرها من طرف الدكتور محمد عبدالله الشرقاوي الأستاذ بقسم الفلسفة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وصدرت عن دار الصحوة للنشر والتوزيع بالقاهرة.
جاء في تصديرها: "هاتان وثيقتان بالغتا الأهمية، لأنهما تكشفان عن جانب من العلاقة الثقافية أو الجدلية الدينية أو الحضارية - سمها كيف شئت - بين المسلمين في الأندلس، والنصرانية في أوروبا الغربية في القرن الخامس الهجري. الوثيقة الأولى أو الرسالة الأولى بعث بها راهب فرنسا - متطاولا - إلى الأمير المسلم المقتدر بالله، حاكم سرقسطة؛ يدعوه فيها إلى الدخول في دين النصارى، ويشرح له بعض أسسه وقواعده ومحاسنه. والوثيقة الثانية: هي نص الجواب الذي كلف الأمير القاضي أبا الوليد الباجي بكتابته ردا على رسالة الراهب الفرنسي، بعد مقابلة مبعوثَيه ومناقشتهما.