جاء في معجم "مقاييس اللغة" أن اليَقَنَ واليقين: زوال الشك، يقال: يَقِنْتُ، واستيقنتُ، وأيقنتُ. ويقال: يَقِنَ فلان الأمر يَقَناً، ويَقْناً، وأيقَنَهُ، وأيقن به، وتيقنهُ، واستيقنه، واستيقن به: عَلِمَه، وتحقَّقَهُ. وهو يَقِنٌ ويَقُنٌ ويَقَنَةٌ ومِيقانٌ: إِذا كان لا يسمع شيئاً إلا أيقنه، وهي مِيقانَةٌ. قال الراغب الأصفهاني في "المفردات": "(اليقين) من صفة العلم، فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: عِلْمُ يقين، ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم".
وقال ابن عاشور: (اليقين) العلم الجازم الذي لا يحتمل الشك، فهو اسم مصدر، والمصدر اليَقَنُ بالتحريك، يقال: يَقِنَ -كفرح- يَيْقَنُ يَقَناً، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال: أيقن يوقن إيقاناً، وهو الشائع.
و(اليقين) -كما ذكر ابن الجوزي- ما حصلت به الثقة، وثَلَج به الصدر من العلم. فكل يقين علم، وليس كل علم يقيناً. ولا يدخل على النفس شك في اليقين بحال؛ لأن الشك إنما يدخل على ما يمكن دفعه عن النفس، ويصح تصوير الأمور فيه على خلافه، واليقين يمنع منه ذلك؛ لأنه ثبت بطريق برهاني، يطابقه الحس بالعلوم الحسية، ويلتزمه العقل بالمعارف العقلية.
ثم قال المحققون: اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وفيه تفاضل العارفون، وتنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون. وإذا اجتمع الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة:24). وخص تعالى أهل اليقين بانتفاعهم بالآيات والبراهين، قال سبحانه وهو أصدق القائلين: {وفي الأرض آيات للموقنين} (الذاريات:20). وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين، فقال: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} (البقرة:4-5). وأخبر عن أهل النار بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين، فقال: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} (الجاثية:32).
ومادة (يَقَن) ومشتقاتها وردت في القرآن في ثمانية وعشرين موضعاً (28) جاءت بصيغة الفعل في أربعة عشر موضعاً، من ذلك قوله سبحانه: {وبالآخرة هم يوقنون} (البقرة:4) وجاءت بصيغة الاسم في أربعة عشر موضعاً كذلك، من ذلك قوله عز وجل: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر:99).
ومادة (يَقَن) ومشتقاتها وردت في القرآن على أربعة معان، هي:
الأول: اليقين بمعنى الصدق والتصديق، من ذلك ما حكاه القرآن على لسان ملكة سبأ: {وجئتك من سبإ بنبإ يقين} (النمل:22) يعني بخبر صِدْق. ومنه أيضاً قول الحق تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} (البقرة:4) يعني يصدقون بوجود الآخرة والبعث. وأكثر ما ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم وفق هذا المعنى.
الثاني: اليقين بمعنى الموت، ورد في موضعين من القرآن: الأول: قوله عز وجل: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر:99) أي: ابقَ ملازماً لعبادة ربك إلى أن يأتي أجلك. الموضع الثاني: قوله سبحانه: {حتى أتانا اليقين} (المدثر:47) يعني الموت.
الثالث: اليقين بمعنى العِيان والمشاهدة، جاء على هذا المعنى قوله سبحانه: {كلا لو تعلمون علم اليقين} (التكاثر:5) يعني علم العِيان والمشاهدة. ونحوه قوله عز وجل: {ثم لترونها عين اليقين} (التكاثر:7) أي: عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقيناً، لا تغيب عن عينك.
الرابع: اليقين بمعنى العلم، من ذلك قوله تعالى في حق نبيه عيسى عليه السلام: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} (النساء:157) المعنى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما قتلوا ظنهم يقيناً، كقولك: قتلته علماً، إذا علمته علماً تامًّا، فـ (الهاء) = {قتلوه} عائدة على {الظن}. قال أبو عبيد: ولو كان المعنى: وما قتلوا عيسى يقيناً لقال: وما قتلوه فقط.
وقوله سبحانه: {وفي الأرض آيات للموقنين} (الذاريات:20) قال الطبري: "وفي الأرض عِبَرٌ وعظات لأهل اليقين بحقيقة ما عاينوا ورأوا إذا ساروا فيها". وقال القرطبي: "(الموقنون) هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم".
ومجمل القول، أن لفظ (يَقَن) بمشتقاته أكثر ما ورد في القرآن الكريم بمعنى (الصدق والتصديق)، وورد في مواضع قليلة بمعنى (المعاينة والمشاهدة)، وورد في موضعين فقط بمعنى (الموت)، وورد بمعنى (العلم).