واللهِ لا يُخْزِيك اللهُ أبدا

20/01/2025| إسلام ويب

أخلاق وشمائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته تؤكد نبوته وصدق ما جاء به، فقد عُرِفَ بأنه صلوات الله وسلامه عليه كان أحسن قومه خُلُقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعفهم نفساً، وأوفاهم عهداً، وأشهرهم أمانة حتى سماه قومه: "الصادق الأمين". قال ابن هشام في السيرة النبوية: "فشبَّ (نشأ) رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تُدنِّس الرجال، حتى سُمِّيَ في قومه الأمين، لِما جمع الله فيه من الأمور الصالحة".

ولعل من أبلغ ما وُصِفَت به حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه قبل البعثة والنبوة ما وصفته به زوجته خديجة رضي الله عنها في بدء نزول الوحي عليه، حيث قالت له مطمئنة إياه: (كلَّا، أَبْشِرْ، فواللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبدا، فوالله إنَّكَ لَتَصِلُ الرحِم، وتصدُق الحديث، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْف، وتُعِين على نَوَائِبِ الحقِّ) رواه البخاري. والمعنى كما قال العلماء: إنه لا يصيبه مكروه، لِمَا جمع الله تعالى فيه من هذه الصفات الحميدة الدالة على مكارم الأخلاق وحُسْن الشمائل.
قال النووي: "وأما (الكل) فهو بفتح الكاف، وأصله الثقل، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}(النحل:76)، ويدخل في حمل الكَل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال وهو الإعياء. وأما قولها: (وتكسب المعدوم) فهو بفتح التاء هذا هو الصحيح المشهور ونقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين قال ورواه بعضهم بضمها.. وأما معنى (تكسب المعدوم) فمن رواه بالضم فمعناه تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه إياه تبرعا، وقيل معناه تعطى الناس مالا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، وأما رواية الفتح فقيل معناها كمعنى الضم.. قال العلماء: معنى كلام خديجة رضي الله عنها: إنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل، وذكرت ضروباً من ذلك، وفي هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء".
وقال ابن حجر: "فلما فجأه الملَك فجأه بغتة، أمر خالف العادة والمألوف، فنفر طبعه البشري منه وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال، لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه، حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له، فهوَّنت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة وطريقته الحسنة".
وقال الطيبي: "أرادت أنك ممن لم يصبه مكروه لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل، وفيه دلالة أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء. وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة تطرأ. وفيه: تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره وذكر أسباب السلامة له. وفيه: أعظم دليل وأبلغ حجة على: كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها".
وقال ابن القيم في "زاد المعاد": " فقالت: (أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا)، ثم استدلت بما فيه من الصفات على أن منْ كان كذلك، لم يخزه الله أبدا، فعلمت بفطرتها وكمال عقلها، أن الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة تناسب كرامة الله وإحسانه، لا تناسب الخزي".

وقد شهد النضر بن الحارث ـ الذي كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ـ بالخلق والشمائل الحسنة له صلى الله عليه وسلم من قبل بعثته ونبوته، فقال لقريش: "قد كان محمد فيكم غلاماً حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر". ولما سأل هرقلُ ملِك الروم أبا سفيان ـ قبل إسلامه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: (هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله) رواه البخاري.

لقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يجعل أنبياءه ورسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بشراً كغيرهم، فهم يشتركون مع سائر البَشَر في الصحة والمرض، والجوع والشِبع، ويقومون بالأعمال التي يحتاج إليها الناس في حياتهم، لكن الله تعالى اختصهم وميَّزهم بأمور وصفات تتطلبها الرسالة وتقتضيها النبوة، فهم أفضل وأحسن الناس خُلقاً، وقد حفظهم وعصمهم الله عز وجل قبل الوحي والنبوة وبعدها، لأنهم سيصيروا قدوة لأممهم .. وقد أجمعت الأمة سلفاً وخلفاً، على عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحفظ الله له، وأن حياته ـ قبل النبوة وبعدها ـ كانت أمثل حياة وأكرمها وأشرفها، فلم تُعْرَف له فيها هفوة، ولم تُحْص عليه فيها زلة، بل عُرِفَ صلى الله عليه وسلم في قومه قبل بعثته بخلاله العذبة، وأخلاقه الفاضلة، وشمائله الكريمة.
يقول الماوردي: "لقد كان صلى الله عليه وسلم محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبًا وللصدق مجانبًا .. حتى صار بالصدق مرقوماً وبالأمانة مرسوماً (موصوفا)، وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام، فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه، فمنهم من كذبه حسداً، و منهم من كذبه عناداً، و منهم من كذبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة.. ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم، ومَنْ عُصِم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم، و حسبك بهذا دفعاً لجاحد ورداً لمعاند".
وقد مدح الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، قال السعدي: "أي: عالياً به، مستعليًا بخُلُقِك الذي منَّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه، فقالت: (كان خلقه القرآن)". وقد قالت عنه زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

www.islamweb.net