إن أكبر ما يدحض فرية أن الصدفة هي المسؤولة عن عملية خلق الكائنات الحية من التراب، هو وجود كائنات حية تسمع وتبصر وتعقل. إن الذي يخلق كائنات يمكنها أن تسمع لا بد وأن يكون سميعاً، وكائنات يمكنها أن تبصر لا بد أن يكون بصيراً، وكائنات يمكنها أن تعقل لا بد أن يكون عاقلاً. فكيف يمكن للصدفة التي لا تبصر، ولا تسمع، ولا تعقل أن يخطر في بالها، إن كان لها بال، أن تصنع كائنات من التراب، يمكنها أن تسمع وترى التراب الذي صنعت منه، ويفكر بعضها ليس في التراب فحسب، بل بما وراء التراب؟!
إن في تركيب نظامي السمع والبصر من التعقيد بحيث لا يمكن لهما أن يعملا إلا بتوفر جميع مكوناتها، ما يعني أن الصدفة لا يمكن لها أن تصنع أحد أجزاء نظام البصر، ثم تبقيه من خلال تخزين طريقة تصنيعه على الشريط الوراثي، ومن ثم تنتظر الصدفة لتصنع جزءاً آخر، وهكذا إلى أن يكتمل تصنيع جميع أجزاء نظام البصر.
إن البشر الذين هم أعقل من على الأرض لا يعرف أكثرهم مما يتكون نظامي السمع والبصر، ولا يعرفون القوانين الفيزيائية التي بُنيت على أساسها هذه الأنظمة. ولولا أن البشر قد ولدوا وهم يسمعون، ويبصرون، ويعقلون، لما خطر على بالهم أن هنالك كائنات يمكنها أن تسمع، وتبصر، وتعقل.
وإذا كان البشر على ما في رؤوسهم من عقول كانوا يجهلون متطلبات بناء هذه الأنظمة، وهي موجودة في أجسامهم، وأجسام كثير من الحيوانات حولهم، فكيف يمكن للصدفة أن تهتدي إلى معرفة مكونات هذا النظام، ثم تقوم ببنائه على أكمل وجه لملايين الأنواع من الكائنات الحية؟! وسنشرح في هذه المقالة مكونات نظام الإبصار عند الإنسان ونؤجل شرح نظام السمع وتركيب الدماغ إلى مقالات لاحقة.
مِمَّ تتركب العين؟
تتكون العين البشرية من كرة لحمية مملؤة بسائل هلامي شفاف، ويبلغ متوسط قطرها سنتيمترين وخمس السنتيمتر، ووزنها ثمانية غرامات فقط.
يتكون جدار كرة العين الذي لا يتجاوز سمكه المليمترين من ثلاث طبقات، وهي الصلبة، والتي تعطي العين لونها الأبيض، والمشيمية وهي شبكة العروق، التي تمد العين بالدم اللازم لتغذيتها، والشبكية وهي الغلاف الداخلي الحساس للضوء، والذي ترتسم عليه صورة الأجسام.
أما الملتحمة فهي الغشاء الخفيف الذى يغطى الصُلبة (الجزء الأبيض في العين) ويبطن الجفون من الداخل، ووظيفتها ترطيب العين من الداخل بإفراز مواد مخاطية يتم مزجها مع الدموع. ولكي يتم إدخال الضوء إلى غرفة العين ورسم صور الأشياء على الشبكية فقد تم استبدال طبقات جدار العين الثلاث عند مقدمتها بثلاثة مكونات؛ وهي القرنية، التي هي امتداد للصلبة، ولكنها شفافة للضوء، ولها قطر تحدب أصغر من ذلك الذي للصلبة. والقزحية، والتي هي امتداد للمشيمة، وهي التي تعطي العين ألوانها المختلفة، كالبني، والأزرق، والأخضر، ويوجد في مركزها فتحة دائرية تسمى الحدقة، أو البؤبؤ، تسمح للضوء المنكسر من القرنية بالدخول إلى العين. ويتم التحكم بمقدار فتحة البؤبؤ بعضلات موجود في القزحية، بعضها دائري، وبعضها شعاعي، وذلك للحد من شدة الضوء الداخل إلى العين، لكي لا يدمر الشبكية، ويتراوح قطر الحدقة بين ملليمترين عند الضوء الشديد، وثمانية مليمترات عند الضوء الخافت. إن عملية التحكم بفتحة الحدقة تتم بطريقة آلية (أوتوماتيكية) فبمجرد أن تتغير شدة الضوء الساقط على الشبكية يقوم مركز الإبصار في الدماغ بقياس شدته، وإرسال إشارات تحكُّم إلى عضلات القزحية لتحدد مقدار فتحة الحدقة بما يتناسب مع شدة الضوء، وتتم هذه العملية بسرعة بالغة حتى لا يتم تدمير الشبكية من الضوء الشديد. أما العدسة فهي امتداد للشبكية، وهي محاطة بسبع عضلات تسمى الجسم الهدبي، وهو يتحكم في مقدار تحدب العدسة، وذلك لكي تقع الصورة المكونة على الشبكية تماماً، حيث تكون صورة الأجسام المرئية أوضح ما يكون، فهي ترتخي عند رؤية الأجسام البعيدة، وتتقلص عند رؤية الأجسام القريبة. ويقوم مركز الإبصار أيضاً بالتحكم بطريقة آلية بدرجة تحدب العدسة، فبمجرد أن ينظر الشخص إلى مشهد ما، فإن الدماغ يقوم على الفور بتحديد درجة التحدب المطلوبة لتظهر صورة المشهد في أوضح أشكالها.
ولكي تحافظ العين على شكلها الكروي وبالأبعاد المطلوبة، تم ملئ الفراغ الداخلي الذي يقع خلف العدسة بمادة هلامية شفافة تشبه زلال البيضة، يسمى الجسم الهلامي. أما الفراغ الذي يقع أمام العدسة فقد تم ملؤه بمحلول مائي يسمى الخلط المائي. وهذا الفراغ مكون من غرفتين: الغرفة الأمامية، وتقع ما بين القرنية والقزحية، والغرفة الخلفية، وتقع ما بين عدسة العين والقزحية. وفى الزاوية بين القرنية والقزحية في الغرفة الأمامية توجد قناة شليم، ووظيفتها تصريف محلول الخلط المائي من الغرفتين، وإرساله إلى الجسم إذا ما زاد ضغطه عن حد معين، حيث أن ارتفاع ضغط العين عن هذا الحد يؤثر على عمل العين، ويسبب ما يسمى بالماء الأزرق أو (الجلوكوما). ولكي تعمل العين بالشكل المطلوب لا بد من ضمان شفافية المكونات التي يمر من خلالها الضوء إلى داخل العين، وهي القرنية والعدسة والسائل الهلامي الذي يملأ حجرة العين. إن المواد الشفافة للضوء الموجودة في الطبيعة قليلة جداً، وهي الزجاج والكوارتز والماس والماء، ولكن بما أن جميع أجسام الكائنات الحية تبني من مواد عضوية، كان لزاماً أن يتم تصنيع مكونات العين الشفافة من مواد عضوية، بحيث يتكون معظم سيتوبلازم خلاياها من بروتينات شفافة للضوء. ويلزم لضمان شفافية القرنية والعدسة أن تكون خالية من الأوعية الدموية التي تمد خلاياها بالغذاء والأكسجين؛ ولذلك فقد تم تصميم جدرانها بحيث تحصل على احتياجاتها من الغذاء والأكسجين بشكل مباشر عن طريق الترشيح من الخلط المائي، الذى يملأ الغرفة الأمامية والغرفة الخلفية.
وتستقر العين داخل جزء من تجويف الجمجمة، يسمى المحجر، وهذا المكان يؤمن الحماية للعين من جميع الجهات عدا الجهة الأمامية، حيث تقوم الجفون بحماية العين أثناء النوم من خلال إغلاقها، وكذلك منع وصول الضوء إلى الشبكية، لكي تريحها بعد يوم طويل من العمل المتواصل. كذلك تقوم الجفون بترطيب وتنظيف العين وخاصة القرنية من الغبار الذي يقع عليها، وذلك من خلال نشر الدموع في العين، والتي تحتوى على مواد تقتل البكتيريا والفيروسات. وتستجيب الجفون بشكل تلقائي لأي جسم قد يهدد العين، مثل تحرك الأشياء بسرعة كبيرة في اتجاهها، أو مفاجئتها بضوء ساطع، وتكون هذه الاستجابة من خلال إغلاق العين كليًّا، أو جزئيًّا بالجفن.
أما الرموش فإنها إلى جانب الناحية الجمالية، فإنها تقوم بحماية العين من دخول الجسيمات الدقيقة، وأما الحاجب وهو الشعر الذى يوجد فوق جفن العين على حافة المحجر العليا، فوظيفته تحويل اتجاه المواد السائلة من العرق، أو الماء بعيداً عن العين. وتقوم الغدد الدمعية التي تقع في الجزء العلوى الأمامي لمحجر العين بصب الدموع عبر قنوات دمعية على ملتحمة العين، ثم تنتقل الدموع إلى زاوية العين الداخلية، لتصل إلى القُنيات الدمعية، ثم إلى الكيس الدمعي المسئول عن عدم نزول الدموع دفعة واحدة لتجويف الأنف، ثم تنتقل إلى القناة الدمعية الأنفية لتصب الدموع في تجويف الأنف. ويتم التحكم بحركة كرة العين داخل المحجر باستخدام ستة عضلات قادرة على تحريك العين في المستوى الأفقي إلى اليمين والشمال، وفي المستوى الرأسي إلى الأعلى والأسفل، ويتم تحريك عضلات كل من العينين بشكل متزامن، بحيث تتحرك إحدى العينين بنفس الاتجاه التي تتحرك به العين الأخرى.
إن من عنده أدنى معرفة في علم البصريات يعلم أنه لكي تقوم العين بوظيفتها على الوجه الأكمل، يجب أن يتم تحديد أبعاد ومواصفات مكوناتها بشكل بالغ الدقة، وإن خللاً بسيطاً في مواصفات، أو أبعاد أحد هذه المكونات قد يؤدي إلى فشل عملية الرؤية. إن المبدأ الأساس الذي تقوم عليه عملية رؤية الأشياء يكمن في قدرة العدسة على رسم صورة للأشياء التي يسقط الضوء المنعكس عنها عند بؤرتها. ويوجد في العين البشرية عدستان تعملان على ضمان وقوع الصورة على شبكية العين؛ أولهما: القرنية: وهي عدسة محدبة مقعرة، لها أبعاد ثابتة، وهي مسؤولة تقريباً عن ثمانين بالمائة من عملية رسم الصورة على الشبكية. أما العدسة الثانية: العدسة البلورية، فهي عدسة محدبة الوجهين، ولكن درجة تحدبهما غير ثابتة، بل يمكن التحكم بهما من خلال العضلات المحيطة بالعدسة، وذلك لكي يتم ضمان وقوع صور الأشياء القريبة والبعيدة بشكل واضح على الشبكية. ويبلغ قطر العدسة تسعة ملليمترات، وسمكها عند منتصفها خمسة مليمترات في حالة الارتخاء. إن وجود عدسة ثابتة التحدب كالقرنية أمام العدسة الداخلية متغيرة التحدب كان ضروريًّا لتحقيق هدفين:
أولهما: تصغير حجم العدسة الداخلية، وذلك لكي يتم التحكم بدرجة تحدبها بعضلات صغيرة، وبالتالي تصغير حجم العين.
ثانيهما: تركيز الضوء الداخل إلى العين من خلال القرنية، لكي يمر من خلال حدقة العين الضيقة الواقعة أمام العدسة الداخلية، والتي يمكنها التحكم بكمية الضوء الداخل إلى شبكية العين.
وكما هو معروف من معادلات العدسات، فإن العدسة لن تقوم بعملها إذا كان معامل انكسار المادة المحيطة بها يساوي معامل انكسارها، فعدسة القرنية التي يبلغ مُعامل انكسارها (1.376) محاطة من الخارج بالهواء بمعامل انكسار يساوي واحد ومحاطة من الداخل بماء العين بمُعامل انكسار يبلغ (1.336) ما يعني أن الوجه المحدب الخارجي للقرنية يلعب الدور الأكبر في عملية انكسار الضوء، وذلك للفارق الكبير بين معاملي الانكسار. ويتجلى مدى علم مصمم هذه العين القائل عن نفسه سبحانه: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} (الفرقان:2) في طريقة تصميم العدسة الداخلية؛ حيث أنها موجودة في وسط مادة هلامية شفافة ذات مُعامل انكسار قيمته (1.336) وهو يزيد قليلاً عن معامل انكسار الماء البالغ (1.333) فكان لا بد لكي تعمل العدسة أن يتم رفع معامل انكسارها إلى (1.406) عند مركزها. وبما أن هذا الفارق بين مُعَامَلَيْ الانكسار لا زال قليلاً، فقد أبدع سبحانه تقنية بديعة لزيادة قوة تكبير العدسة، وهي ما يسمى بالعدسة ذات مُعامل الانكسار المتدرج Graded Index lens (GRIN) وإن مُعامل انكسار العدسة عند وسطها يبلغ (1.406) وعند أطرافها (1.386).
ويستخدم البشر اليوم مثل هذه العدسات المتدرجة في كثير من التطبيقات الحديثة، علماً أن تصنيع مثل هذه العدسات يحتاج إلى معدات بالغة التعقيد. ويُلاحظ أن نصفي قطر وجهي العدسة البلورية مختلفان في القيمة، ما يعطي درجة إضافية من الحرية لضبط مقدار البعد البؤري لها على الرغم من أن تصنيع مثل هذه العدسة غير المتماثلة أصعب بكثير من العدسة المتماثلة. إن من عنده معرفة بأنظمة التصوير يعلم أن تحديد مكان تكون الصورة في نظام تصوير بعدسة واحدة فقط محاطة بالهواء من جانبيها عملية ليست بالسهلة، ويزداد الأمر تعقيداً في حالة نظام تصوير بعدستين أو أكثر. أما نظام التصوير في العين، فإن فيه من التعقيد ما يصعب حتى على أذكى المختصين من تحديد مكان الصورة الأمثل، فهذا النظام كما تقدم مكون من عدستين، إحداهما: ثابتة بمُعامل انكسار (1.376) وبوجهين الخارجي منها محدب بنصف قطر يبلغ (7.259) ملم، ومحاط بالهواء، والداخلي مقعر بنصف قطر (5.585) ملم، ومحاط بماء العين بمُعامل انكسار (1.336) أما العدسة الثانية: فتقع على بعد (2.794) ملم من العدسة الأولى، وهي عدسة محدبة الوجهين بدرجة تحدب متغيرة، حيث يبلغ نصف قطر الوجه الأمامي عند الارتخاء (8.672) ملم، والخلفي (6.328) ملم، وهما محاطين بماء العين والجسم الهلامي بمُعامل انكسار (1.336) إضافة إلى ذلك، فإن معامل انكسار هذه العدسة متدرج، يبلغ عند منتصفها (1.406) وعند أطرافها (1.386).
لقد حدد الله سبحانه وتعالى موقع الشبكية الأمثل على بعد أربعة وعشرين ملليمتر من القرنية. والأعجب من كل هذا، أن أبعاد مكونات هذه العين رغم أنها مصنوعة من الماء وقليل من المواد العضوية تبقى ثابتة لا تتغير عند كثير من الناس إلى ما يقرب من قرن من الزمن، والعين هي العضو الوحيد من بين أعضاء جسم الإنسان التي لا يختلف حجمها من إنسان إلى إنسان إلا بقدر بالغ الضآلة، ولا يزيد حجمها مع زيادة حجم الجسم. (يتبع).
* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة).