سوء التغذية التاريخية

06/10/2019| إسلام ويب

يُعَرِّف المختصون في الطب والتغذية سوء التغذية بأنه إما نقص في التغذية أو استهلاكُ مواد مضرة بالصحة أو استهلاكٌ عشوائي لمواد غذائية لا تحقق التغذية السليمة، على الرغم من شعور المتغذي بالشبع. ولا علاقة لكثرة الطعام أو ثمنه الغالي أو أماكن تناوله الراقية بالقيمة الغذائية له، ما لم تتوفر فيه المواصفات المطلوبة ليستفيد الجسم منه.
في سوق التاريخ أطعمة كثيرة ومتنوعة، تثير الحيرة بكثرتها، ويوجد طباخون كُثر، يعْرضون هذه الأطعمة، ويتغنون بأصالتها وجودتها في كل المحافل والمناسبات، ويقدمون أنفسهم بصفتهم مختصين وعارفين بخبايا الطعام التاريخي.

لو أردنا أن نتتبع ما يُعرض على العربي من الإنتاج التاريخي، مباشرة أو بشكل عرَضي، سواء خلال مرحلة الدراسة والتكوين أو في الحياة العملية، سنَتُوهُ أمام كثرة الخيارات المطروحة أمامهم، وهي خيارات متنوعة، ومتفاوتة الأهمية والقيمة، وتحتل حيزا كبيرا في الحياة الخاصة والعامة، ولها تأثير على العديد من مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية.
نحن نقدم للطفل تاريخا يبدأ قبل الدخول إلى المدرسة، عن أصله وعائلته والحي الذي ينتمي إليه والقرية والجهة والقبيلة، وننقل إليه تاريخنا الذي تعلمناه وتوارثناه، وحصّنّاه بالدين والقيم والأعراف والعادات. وهذا التاريخ وإن لم يقدم بشكل مباشر، وبالتلقين في المدرسة، له تأثير كبير على شخصية هذا الطفل، ويظل مرافقا له في فترة طويلة من عمره، لأنه يُكَرَّس في حياته اليومية خارج قاعات الدرس، وبموازاة مع ما يأخذه في المدرسة.

يأتي بعد ذلك دور المدرسة، في طورها الابتدائي، حيث نقدم للتلميذ تاريخا بمواصفات تشكل أساس تصوره لهذه المادة المعرفية: التاريخ هنا تاريخ أحداث يقينية، والتمكن من هذه المادة يقتضي حفظ أسماء السلاطين والدول والمعارك الكبرى والسنوات، واختزال فترات طويلة من هذا التاريخ في ملخصات قصيرة. وغالبا ما يفقد التلميذ هذه المعلومات بمجرد انتقاله إلى الثانوي أو خروجه من الدراسة.
وفي مرحلة الدراسة الثانوية، وخلال سبع سنوات، يختلف نصيب كل تلميذ من تحصيل المعرفة التاريخية، حسب الأسبقيات التي يعطيها لمواد المقرر، فإن كان اتجاهه علميا، أهمل كليا أو جزئيا حصة التاريخ، ذات المعامل الضعيف، وستكون سنوات التعليم الثانوي آخر عهده بهذا التاريخ، لو اختار كليات مثل الطب والعلوم والتقنيات، أو التعلم بلغات أخرى، وبذلك تنتهي علاقته تماما بالتاريخ، ويصبح لقمة سائغة للاستغلال من لدن الذين يتخذون التاريخ مطية لأغراض خاصة مستفيدين من جهله وتشوفه للمعرفة التاريخية. وإن كان اتجاهه أدبيا سيعطي اهتماما أكبر لمادة التاريخ، ولكن هذا لا يغير كثيرا من المشكل لأن المقررات، تركز على المعلومات وعلى الأحداث والاستظهار، وتسعى إلى تغطية كل الفترات التاريخية، في الوطن العربي والعالم، بدون أن يلحقها تطور كبير، بسبب عدم وجود تنسيق بين ما تنتجه الجامعة، وما يستهلكه التلاميذ في المقررات الدراسية. وتكفي إطلالة على مقررات الثمانينيات من القرن الماضي ومقارنتها بما تقدمه المقررات الحديثة ليتبين أن طريقة التدريس، والتركيز على الأحداث، لم تتغير كثيرا.

بعد الانتقال إلى الجامعة تنقطع صلة معظم الطلاب بدروس التاريخ، فيكتفون في الغالب بما تلقوه في مرحلة الثانوي، وعلى ما يلتقطونه هنا وهناك من مصادر جديدة، أو يتعلمونه بجهودهم الشخصية. ويكاد تدريس التاريخ يقتصر –كما ذكرنا- على كليات الآداب، التي سبق أن تطرقنا إلى ظروف تدريس التاريخ بها، وإلى أعطاب التكوين التي لا تسمح غالبا بتكوين طلبة متمكنين من البحث التاريخي أو على الأقل متوفرين على حصيلة معرفية تليق بنخبة عالمة، يتوقف عليها بناء المجتمع وتكوين الأجيال القادمة.
إذا تركنا جانبا مجال التدريس، نجد تاريخا آخر موازيا، يملأ الفراغات، ويفرض نفسه. إنه التاريخ الذي نتعايش معه كل يوم، والذي يقتات منه السواد الأعظم من العرب الذين يجهلون تاريخهم، ويتعطشون إلى ما يشفي غليلهم.

قبل انتشار وسائل الإعلام، نجد هذا التاريخ في الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة، في الحياة اليومية حيث يتحدث الأب عن أبيه وجده وعائلته والأحداث التي شهدها، في الحي والمدينة والقبيلة، أو سمعها ممن سبقوه، يعطيها الكثير من المصداقية، وخاصة ما تعلق منها بالدين وتاريخ الإسلام. ويحضر التاريخ في المناسبات العائلية وفي سمر الكبار وأحاديثهم عن الماضي، وفي الحي والسوق والمسجد، حيث يقدم الإمام التاريخ في حلة قشيبة، ويركز على الأمجاد وعظمة الأسلاف. وهذا التاريخ سهل وبسيط، وغالبا ما يحكى بسرد مشوق وممتع، والسارد لا يعنيه في الغالب التثبت من الأحداث ومصادرها بقدر ما يهمه جانب المتعة والتشويق والتمجيد الذي يطلبه المستمعون، إذ أنه في الغالب تاريخ شفوي، ومرن يقبل الزيادة والنقصان حسب الملابسات التي تخلقها عناصر الزمان والمكان والجمهور وسن الراوي. والتاريخ حاضر دائما، نجده الآن مثلا في المقاهي والنوادي والمناسبات العامة ولم يعد شأنا عائليا وإنما أصبح شأنا عاما لأن الذين تلقوه في المدارس، يجدون متعة في استعراض ما بقي عالقا بذاكرتهم من معلومات تاريخية، يتبادلونها مع نظرائهم الذين تلقوا مثيلات لها، وقد يضيفون إليها ما يرونه ضروريا لتكملتها إذا لزم الأمر.

يطول الأمر لو تتبعت أصناف التاريخ والمؤرخين، ويكفي الإشارة إلى أن دخول الجريدة سمح بفسح المجال أمام التاريخ المكتوب، وكذلك الشأن بالنسبة لتطور النشر، بفعل الطباعة والدور الذي لعبته وسائل الإعلام وعلى رأسها الإذاعة والتلفزيون، وبذلك أصبحت الحاجة ماسة إلى التاريخ، فخرج من المدارس والجامعات إلى الجمهور العريض، وأصبح له رجال يعملون على ترويجه، بدرجات متفاوتة في الجودة، حسب الأشخاص المعنيين وتكوينهم ومكانتهم العلمية، والمنابر التي ينشرون فيها، وحسب نزاهتهم وحيادهم، ومواقعهم السياسية، ودخل الفن رديفا للإعلام في إيصال المعرفة التاريخية بشكل بسيط وجذاب ومشوق إلى الناس على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم وأعمارهم.
أما الجامعة فقد واصلت تكوينها الأكاديمي لأجيال من الباحثين الذي ملأوا رفوف مكاتبها بأطروحات ورسائل جامعية، أخذت منهم وقتا وجهدا، ولم تجد طريقها إلى النشر، وحين تم نشر بعضها لم يجد طريقه إلى القارئ، بسبب غلبة الطابع الأكاديمي عليها، وتخصصها الدقيق، كما أن جل المقالات ظلت مجهولة بسبب محدودية انتشار المجلات التي احتضنتها.

وأمام التطور السريع في مجالات الاتصال والنشر، لم يعد نشر الأبحاث والمقالات والكتب يشكل عائقا، وحدثت –كما هو معروف- طفرة كبيرة في كم ما نشر من مؤلفات ومقالات في مجال التاريخ، سواء تعلق الأمر بالنشر الورقي أو الإلكتروني، وأصبح المجال متاحا لكل راغب في الكتابة والتعليق بدون قيد أو شرط.
والنتيجة أننا الآن أمام فوضى عارمة في سوق التاريخ، يمكن تلخيصها في أن التاريخ حاضر عند العامة والخاصة، وعند الباحثين والساسة، وعند جمعيات المجتمع المدني وفي الدبلوماسية والإدارة والإعلام والأحزاب والنقابات، وفي المدارس والجامعات، وفي الأعمال الفنية، لكن تعاطَى له من لا صلة لهم به، فحولوه إلى أداة لتمرير المواقف السياسية، والأفكار المريضة، وتعاملوا معه باستخفاف فوصلوا به إلى الهزالة والإسفاف.

ما بين البحث التاريخي الرفيع في الجامعة، وبين التاريخ المتداول بون شاسع، والمؤسسات التي يرجى منها القيام بالوساطة لا تقوم بدورها، والمتلقي لهذا الكم الكبير من الأعمال التي يفتقر جلها إلى الرصانة والمصداقية، يقع في حيرة من أمره، ولا يجد غالبا من يساعده على التغلب على حيرته.
إننا كما قال – المرحوم الأستاذ عبد الهادي التازي في إحدى مقالاته – بحاجة إلى محتسب، مثل محتسب الحسن الوزان في فاس، يقوم بالطواف في الأسواق، فإذا وجد بضاعة مغشوشة، انهال على صاحبها بلكمات النقد ليَرْعَوِيَ عن غيه، ويُجَوِّدَ بضاعته، ولا يساهم في اسْتِشْراء سوء التغذية التاريخية.

www.islamweb.net