الإيمان بالله عز وجل وعبادته هو الأصل الذي من أجله خلق الله السموات والأرض، والجنة والنار، وخلق الخَلْق جميعا، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات:56)، قال السعدي: "هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المُكَلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم".
ومما يتضمنه معنى الإيمان بالله: الإيمان والاعتقاد الجازم بوجوده سبحانه، وقد دلّ على وجود الله: الفِطْرَة، والعقل، والشرع.
أولاً: دلالة الفطرة على وجود الله:
يُقْصَد بالفطرة ما جَبَل الله الإنسان عليه في أصل الخِلقة من معرفته بربه سبحانه، والإيمان به، ومعرفته بالأشياء المادية والأمور المعنوية الظاهرة والباطنة، ومحبته للخير وكراهيته للشر، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم:30). قال عبد الله بن عباس: "{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} نَفسك وعملك، {لِلدِّينِ حَنِيفاً} مُسلما، يقول: أخْلص دينك وعملك لله، واستقم على دين الْإِسْلَام، {فطْرَة الله} دين الله {الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا} الَّتِي خلق النَّاس عَلَيْهَا فِي بطُون أمهاتهم". وقال ابن كثير: "..لازِم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"، وقال ابن عطية: "والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي: (الفطرة) أنها الخِلقة والهيئة التي في نفس الإنسان، التي هي مُعَدَّة ومهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه".
وقد ذهب عدد كبير من العلماء والمفكرين ـ القدامى والمعاصرين ـ إلى أن فكرة وجود قوى عظيمة مهيمنة على الكون ومدبرة له، هي فكرة فِطْرية في باطن الإنسان، فكلّ مخلوقٍ فُطِر على الإيمان بالله عز وجل، ووجوده سبحانه من غير تفكير أو تعليم، ولا يجهل أو ينكر وجود الله إلا من انتكست فطرته، إذْ ما مِنْ شيء إلا وهو أثر من آثار قدرته، ولهذا قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(إبراهيم:10). قال ابن كثير: "وهذا يحتمل شيئين، أحدهما: أفي وجوده شك، فإن الفِطَر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفِطَر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه. والمعنى الثاني في قولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أي: أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى". وقال ابن تيمية: "فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخَلق المخاطبين، وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِن مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو يُنَصِّرانه، أو يُمَجِّسانه) رواه البخاري.
قال السيوطي والقاضي عياض وغيرهما: المراد بالفطرة المذكورة في الحديث: ما أُخِذ عليهم وهم في أصلاب آبائهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(الأعراف:172).
إن وجود الله عز وجل من الأمور المتعمقة في الفطَرة البشرية السوية، فكل إنسان يشعر ويوقن داخل نفسه بأنّ له ربَّاً وخالقاً، ويشعر بعظيم الحاجة إليه، فيتجه بيديه وعينيه وقلبه إلى السماء، لطلب العون من ربه سبحانه، ومن ثم فالقول بفطرية الاعتقاد والإيمان بوجود الله عز وجل أمر يقرّ به الصغير والكبير، ومن ينكر وجود الله تعالى مخالف للفطرة السليمة.
ثانيا: دلالة العقل على وجود الله:
أما دلالة العقل على وجود الله عز وجل، فلأن جميع المخلوقات لابد لها من خالق أوجدها على هذا النظام البديع، إذ لا يمكن أن توجِدَ نفسها بنفسها، لأن الشيء لا يَخلق نفسَه، فكل حادث لا بد له من مُحْدِث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع المُحْكَم، يمنع منعاً باتاًّ أن يكون وجودها صُدْفة، وهناك احتمالان لا ثالث لهما إلا الاعتراف بوجود الله سبحانه والإيمان به، الاحتمال الأول: أن يكون هذا الخَلق من غير خالق، وهذا مستحيل تنكره العقول السليمة، إذ لا بد للمخلوق من خالق، وللمصنوع من صانع. وقد سُئِلَ أعرابي، كيفَ عرفتَ الله؟ فقال: البَعَرَةُ تَدُلُّ على البعير، والأَثَرُ يَدُلُّ على المَسير، فَسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فِجاج، أفلا تَدلُّ على العَلّي الخَبير!.
والاحتمال الثاني: أن يكونوا ـ أي الخَلْق ـ هم الذين خلقوا أنفسهم وخلقوا الكون وما فيه، وهذا مستحيل أيضا إذ لم يدَّع أحد أنه خلق نفسه فضلا عن خَلقه السموات والأرض والكون، ولو ادَّعى مُدَّعٍ ذلك لاتُهِمَ بالجنون، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلم يبق إلا أن يكون لهذا الكون خالقاً ومُوجِدا، وهو الله عز وجل. ولهذا ذكر الله تعالى الدليل العقلي على وجوده فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}(الطور:35-36)، قال ابن كثير: "هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي: أوُجِدُوا من غير مُوجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي: لا هذا، ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا". ولما سمع جُبير بن مُطعِم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات وكان مشركًا قال: (كاد قلبي أن يطير وذلك أولُ ما وقر الإيمان في قلبي) رواه البخاري. ومن المعلوم أن الأثر يحتاج فِي حدوثه إِلَى مؤثر، كما يشهد بذلك العقل الصحيح، والتدبر في نظام الكون وتناسقه وإحكامه ودقته يُفْضي بالضرورة إلى الإقرار والإيمان بوجود الله عز وجل.
ثالثاً: دلالة الشرع على وجود الله:
أما دلالة الشرع على وجود الله عز وجل، فلأن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب السماوية تنطق بذلك، فمن الحجج والبراهين الدالة على وجود الله، ما تتضمنه الشرائع التي جاء بها رسل الله من كمال المصالح للأفراد والمجتمعات، وما تضمنته هذه الشرائع من استيعاب وشمول للحياة كلها، وما فيها من توازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، وبين متطلبات الجسد واحتياجات النفس، وتوازن كذلك بين تحصيل منافع الدنيا والسعي لثواب الآخرة، ومن ثم فما بُعِث به الرسل والأنبياء لا يمكن أن يكون من وضع البشر، بل هو من لدن حكيم خبير، هو خالق هذا الكون ومدبّره، قال الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}(الملك:14)، وقال تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ}(البقرة:140)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(المائدة:50). قال الشيخ ابن عثيمين: "جميع الشرائع دالة على وجود الخالق وعلى كمال علمه وحكمته ورحمته، لأن هذه الشرائع لابد لها من مُشَرِّع، والمُشَرِّع هو الله عز وجل".
دلائل وجود الله تعالى أكثر مِنْ أن تُحْصَى، ففي كل مخلوق من خَلقه دلالة على وجوده سبحانه، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة، منها: قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(الأعراف:54)، وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(الجاثـية:3ـ5). وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}(الغاشية: 20:17)، وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}(الطارق: 8:5). وقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}(الذاريات:20-21). وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}(آل عمران:190). قال ابن كثير: "ومعنى الآية أنه يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سَيَّارَاتٍ، وثوابتَ وَبِحَارٍ، وَجِبَالٍ وَقِفَارٍ وَأَشْجَارٍ وَنَبَاتٍ وَزُرُوعٍ وثِمَارٍ، وحيوان ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم، ولهذا قال: {لأولِي الألْبَابِ} أي: العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جَلِيَّاتِهَا)".
الإيمان بالله عز وجل ووجوده، أمر لا شك ولا جدال فيه عند أصحاب العقول السليمة والفِطَر السوية، وأما من تعرض للانحراف والانتكاس حتى اقْتُلِعَت الفطرة السليمة من قلبه، وأنكر وجود الله عز وجل، فإنه يحتاج إلى النظر والبحث والتأمل في داخل نفسه وفِطْرته، وفي الدلائل الكونية والآيات القرآنية، وسيجد فيها الدلائل الواضحة والبراهين الساطعة على وجود الله عز وجل، قال ابن تيمية: ''إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة''. ومن ثم فإن إنكار وجود الله دعوى واهية لا دليل عليها، بل الفطرة السوية ومعها الأدلة العلمية والعقلية والشرعية تناقضها، وتقضي بوجود الخالق سبحانه وتعالى ووحدانيته.