الوفاء الكريم.. والغـدر اللئيم

23/12/2019| إسلام ويب

الوفاء من شيم الكرام والغدر من سمت اللئام، والوفاء دليل المروءة والفتوة والعزة، والغدر علامة الدناءة والحقارة والذلة.
رأيت الحُرّ يجتنب المخازي .. .. ويحميه عن الغدر الوفاء

والناس بين الوفاء والغدر درجات ودركات. فمنهم من يحفظ ود لحظة أو معروف بلقمة، أو حتى مواساة بكلمة أو ببسمة، ومنهم من لا يرعى ودا ولو طال، ولا معروفا ولو عظم، مثله كما قيل: لو ألقمته عسلاً عض إصبعك. وقولهم: "الخسيس لا يفي ولو فديته بالرمح".

والوفاء من أروع الصفات التي يتحلى بها المرء، فهو علامة الإخلاص والعطاء وحفظ العهد، بعيدا عن الخيانة والغدر، وهو يقرب الناس إليك فيحبونك ويقدرونك، وكان له عند العرب قيمة عظيمة قدرها عرب الجاهلية، وكان من أقوالهم: "الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والفجور". وكانوا يرون الغدر لؤما وخسة، والوفاء مدحة ورفعة.
وقد أقرهم الإسلام على هذا الأمر، وجعل الوفاء بالعهد من الإيمان: فقال في الأمر بالوفاء بعهده تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}، وقال: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها}، وقال: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}.
وقال في الوفاء بعهود الناس: {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بالعقود}، وقال: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}. والآيات كثيرة تغني كثرتها عن كتابتها.
غير أن الوفاء التام عزيز، وهو كذلك منذ زمن، ولقلته بين الناس قال تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}.
وقد عز في هذا الزمان حتى قالوا:
ذهب الوفاء فما أحس وفاء .. .. وأرى الحفاظ تكلف ورياء

والغدر في الناس طبعٌ لا تثق بهم .. .. وإن أبيت فخذ في الأمن والوجل
ولا يغرنك من مــرقى سهــولـته .. .. فربما ضقت ذرعاً منه في النزل

درجات ودركات:
والناس في الوفاء بالعهد طبقات، ودرجات، وهم في الغدر والخيانة دركات:

السموأل أوفى العرب:
وقد كانت العرب تضرب بالسموأل المثل في الوفاء؛ وذلك لقصته المشهورة في أدراع امرؤ القيس بن حجر الكندي الشاعر المعروف.
والسموأل هو: السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي. شاعر جاهلي حكيم. من سكان خيبر (في شمالي المدينة) كان يتنقل بينها وبين حصن له سماه "الأبلق". كان شاعراً مجيداً، عده ابن سلاّم الجمحي من فحول الشعراء، وله أشعار في الفخر والغزل ومكارم الأخلاق، وتدل قصيدته اللامية «إذا المرء لم يَدنَسْ من اللؤم عرضُه.. فكل ثياب يرتديه جميل»، على ما يتحلى به من وفاء وشهامة يقول في أبيات منها:
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُه .. .. فَــكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَمــيلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها .. فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
تُــعَــيِّـرُنا أَنّــا قَــلــيلٌ عَـديــدُنــا .. .. فَـقُــلـتُ لَـهــا إِنَّ الكِــرامَ قَـلـيلُ
وَما قَــلَّ مَن كانَت بَقــايــاهُ مـِثـلَـنا .. .. شَبابٌ تَســامى لِلعُلى وَكُهولُ
وَمــا ضَــرَّنا أَنّــا قَـلـيـلٌ وَجـارُنا .. .. عَــزيزٌ وَجـارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ

قصة وفاء عجيبة
وقصة السموأل في الوفاء مشهورة في كتب الأخبار وتاريخ الأدب، وخلدها الشعراء في شعرهم كالأعشى وغيره.
وملخص القصة "أن امرؤ القيس عندما قُتل أبوه حجر ملك كندة طلب ثأره، وعزم على الرحيل إلى هرقل ملك الروم لكي يعطِيه جيشاً يحارب به قاتلي أبيه، حتى يثأر منهم، أودع عند السموأل دروع أجداده التي اعتاد ملوك كندة توارثها أباً عن جد، وهي ترمز إلى ملكهم، وكان السموأل يملك حصناً منيعاً يسمى «الأبلق» في تيماء من شمال الجزيرة العربية، وسار امرؤ القيس إلى هرقل في رحلته الشهيرة التي خلدها في قصيدته الرائية المشهورة «سما لك شوق بعد ما كان أقصرا»، ومات في تلك الرحلة.

ولما علم ملك الحيرة الحارث بن شمّر الغساني بتلك الدروع، رآها غنيمة وتمنى الظفر بها، ولما جاءه خبر موت امرؤ القيس، عزم أن يستولي على تلك العدة، فسار بجيشه إلى ديار السموأل الذي لجأ إلى حصنه فأغلقه عليه، وأمسك الحارث الغساني بأحد أولاد السموأل حين كان خارج الحصن ـ قيل كان في الصيدـ، وأرسل الغسّاني إلى السموأل يخيّره بين أن يدفع إليه أمانة امرئ القيس أو أن يقتل ابنه، وأمر أن يربط ابن السموأل بمكان، بحيث يرى من شرفة الحصن، فأشرف السموأل فرأى ابنه، فقال له أحد أقاربه: يا سموأل لقد حفظت أمانتك قدر المستطاع، وامرؤ القيس قد مات، وهذا الملك لا طاقة لك به، وهو آخذها لا محالة، فادفع له ما يريد وخلّص ابنك. فأطرق السموأل ملياً ثم قال له: ورب السماء لن أخون ذمتي، ولن أجعل العرب تعيّرني بقلة وفائي، ورد على الملك بأنه لن يسلمه أمانته، وليفعل ما يشاء، فذبح الملك الولد تحت عينيه.

لبث الحارث بعد ذلك وقتاً يحاصر الحصن حتى يئس فانصرف بجيشه، وظل السموأل محتفظاً بوديعته حتى جاءه ورثة امرئ القيس فدفعها إليهم، ومن أجل ذلك ضرب به المثل، فأصبح يقال لكل من يظهر وفاء خارقاً إنه «أوفى من السموأل»، وتنسب إلى السموأل أبيات يشير فيها إلى هذه الحادثة، منها:
وفيت بأدرع الكندي، إني .. .. إذا ما خان أقوام وفيت

وقد خلد الأعشى ميمون بن قيس الشاعر الجاهلي المعروف، هذه القصة في قصيدة رائية مشهورة له مدح بها شريح بن السموأل بن عاديا، وكان شريح مثل أبيه شهماً كريماً سيداً في قومه، ومنها قوله:
كنْ كالسّموألِ إذْ سارَ الهمامُ له .. .. في جحفلٍ كسوادِ اللّيلِ جــرّارِ
بالأبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْـمَاءَ مَنْزِلُه .. .. حصنٌ حصينٌ وجارٌ غيرُ غدّارِ
 إذْ سامَهُ خُطّتَيْ خَسْفٍ، فَقالَ له.. .. مهــما تقلهُ، فإنّي ســامـعٌ جــارِ
فَقالَ: ثُـكْلٌ وَغَـدْرٌ أنتَ بَـينَهُما .. .. فـاخترْ، وما فيهما حـظٌّ لمخـتارِ
فشكّ غـيرَ قليلٍ، ثمّ قــالَ لــهُ: .. .. اذبحْ أســيرك إني مـانعٌ جـاري
وَسَوْفَ يُعقِبُنيِهِ، إنْ ظَفِرْتَ بِهِ، .. .. ربٌّ كريمٌ وبيضٌ ذاتُ أطـهارِ
فكانت هذه من أشهر وأغرب قصص الوفاء عند العرب.

غدر أبي البسام بأستاذه ومعلمه:
وفي مقابل قصص الوفاء قصص أخرى للغدر.. منها هذه القصة التي أوردها الذهبي في السيَر، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك"، والمراكشي في "المعجب"، وابن سعيد في "المغرب".. وآخرون.. فقالوا:
"لما تولى الحكم بن هشام الداخل الحكم مالَ إلى أهل الفسق، واقترفَ الكبائر والمنكرات، فتحرّك الفقهاء وأرادوا الخروج عليه، فحصل ما حصل للفقهاء من قتلٍ وتعذيب، وشاء الله لبعضهم النجاة فهرب منهم من هرب.

وكان أحد العلماء المطلوبين لسيف السلطان الإمام الفقيه "طالوت بن عبدالجبار" تلميذ الإمام مالك، وهو من أكابر الفقهاء، وقد هرب من بطش الحكم، واستخفى عند جارٍ له يهوديّ مدّةَ عامٍ كامل، واليهودي في كل يوم يقوم بخدمته ويُكرمه أشد الكرم، فلما مضى عام كامل طال على الإمام "طالوت" الاختفاء، فاستدعى اليهودي وشكره على إحسانه إليه، وقال له:
قد عزمت غدًا على الخروج، وسأذهب إلى الوزير أبي البسام فقد قرأ عليّ القرآن وعلمته العلم، ولي عليه حق التعليم وحق العشرة - وله جاهٌ عند الحكم فعسى أن يشفع لي عنده فيؤمّنني ويتركني.
فقال اليهودي: يا مولاي لا تفعل، إنى أخاف عليك من بطش الحكم بك.
وجعل اليهوديّ يحلف لهُ بكلِّ يمينٍ ويقول له: لو جلست عندى بقية عمرك ما مللت منك.

فأبى "طالوت" إلا الخروج، فخرج فى الخفاء بالليل حتى أتى دار الوزير فاستأذن عليه، فأذِن الوزير له، فلما دخل عليه رحّب به وأدنى مجلسه وسأله أين كان في هذه المدة فقص عليه قصته مع اليهودي، ثم قال الإمام "طالوت" للوزير أبي البسام: اشفع لي عند الحكم حتى يؤمنني. فوعده الوزير بذلك، ثم خرج الوزير من فوره إلى الأمير، الحكم بن هشام وقال له: لقد جئتك بهدية، جئتك بطالوت رأس المنافقين، قد ظفرت به.
فقال الحكم: قم فعجّل لنا به.

فلم يلبث أن أُدخل الإمام "طالوت" على الأمير، وكان الأمير يتوقد ويشتعل غيظًا منه فلما رآه جعل يقول: طالوت؟ الحمد الله الذي أظفرني بك، ويْحك والله لأقتلنك شر قتلة. كيف استبحت حرمتي؟
فقال له الإمام "طالوت": ما أجد لي في هذا الوقت مقالاً إلا أن أقول لك: والله ما أبغضتك إلا لله وحده حين وجدتك انحرفت عن الحق، وما فعلت معك إلا ما أمرني الله به.
فأسكن الله غيظ الحكم ثم قال: يا طالوت! والله لقد أحضرتك وما في الدنيا عذاب إلا وقد أعددته لك، وقد حيل بيني وبينك، فأنا أُخبرك أن الذي أبغضتني له قد صرفني عنك، اذهب قد عفوت عنك.
ثم سأله: كيف ظفر بك الوزير أبى البسام؟
فقال: أنا أظفرته بنفسي عن ثقة، فأنا لي فضل عليه؛ فقد علمته القرآن والبيان، واستأذنته أن يشفع لي عندك، فكان منه ما رأيت.
فقال له: فأين كنت قبل أن تذهب إليه؟
فأخبره " طالوت " بخبر اليهودي.

فأطرق الأمير رأسه، ثم نادى على وزيره "أبي البسام" وقال له: يالك من رجل سوء قاتلك الله أيها المشؤوم. أكرمه يهودي من أعداء الملّة، وسترَ عليه لمكانة العلم والدين، وخاطرَ بنفسه من أجله، وغدرت به أنت يا صاحب الدين حين قصدك. أيها المشؤوم ألا أديت له حق تعليمه لك؟ ألم تعلم أنه من خيار أهلِ ملّتك، وأردتَ أن تزيدنا فيما نحن قائمون عليه من سوء الانتقام؟ اخرج عني.. قبّحك الله.. لا أرانا الله في القيامة وجهك. هذا إن رأينا لك وجها، ولا أريد أن أراك بعد اليوم، ثم طرده من الوزارة وضيّق أرزاقه.

ثم مضت سنوات فرأى الناس هذا الوزير المنافق الكاذب في فاقةٍ وذُلّ، فقيل له: مابك وما الذى أصابك؟ قال: استُجيبت فيَّ دعوة الفقيه طالوت.
وأرسل الحكم إلى اليهودي فأكرمه وزاد في إحسانه. فلما رأى اليهودي ذلك، أسلم.
وأما طالوت فلم يزل مبرورًا عند الأمير إلى أن توفي، فحضر "الحكم" جنازته وأثنى عليه بصدقه وإخلاصه وعلمه.
 

www.islamweb.net