(الدعاء هو العبادة).. هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم.
بل هو أخص العبادة، إذ فيه اعتراف من الداعي بالذل والفقر والحاجة، واعتراف للمدعو بالعزة والغنى والقدرة والإنعام؛ ولهذا لا يجوز صرف الدعاء ـ كغيره من العبادات ـ لغير الله، فمن دعا غير الله دعاء عبادة، أو دعاء مسألة فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك، ولو كان المدعو ملكا مقربا أو نبيا مرسلا، أو وليا من الأولياء، أو ممن يقال لهم الأقطاب أو الأوتاد أو الأغواث. تماما كما لو دعا وثنا أو صنما، أو حجرا أو شجرا، أو حيوانا أو نارا أو كوكبا؛ إذ الدعاء عبادة وشرط قبول أي عبادة إخلاصها للرب سبحانه، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما كان كثير من شرك المشركين شركَ عبادة ودعاء، أمرهم الله أن يتوجهوا بها إليه وحده، وألا يدعو سواه، وأن يخلصوا لله فيها تمام الإخلاص:
قال تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون}(غافر:14 )
وقال: {هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}(غافر:65).
وقال: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين}(الأعراف:29).
وقال في سورة الجن: {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)(الترمذي وقال حسن صحيح).
وقد نهى الله سبحانه عن دعاء أحد غيره، وأخبر أن هؤلاء جميعا لا ينفعون عابديهم، ولا يسمعون دعاءهم، وحتى لو سمعوا فليس عندهم قدرة على إجابتهم وتحقيق طلبتهم:
فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(الأعراف:194).
فهم عباد مثلكم تماما، وهم عاجزون عن تلبية طلباتكم وتحقيق رغباتكم: {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}(فاطر:14)
وقال في سورة الرعد: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}(الرعد:14).
{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر:38).
ويقول سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} (يونس:106).
فإذا أردت قبولَ دعائك، وحصول رجائك، وسلامةَ دينك فالزم باب الإخلاص واحذر الشرك في الدعاء فإن صوره في هذا الزمان بين الناس كثيرة ومتنوعة.. ما بين عابد لوثن، وساجد وسائل لصنم، أو متعلق بنبي، أو متوسل بولي، أو...الخ
فإذا توجه الجاهلون بدعائهم إلى من يعتقدونهم شركاء مع الله في خلقه فابرأ أنت من شركهم، والجأ إلى ربك وربهم وخالقك وخالقهم، ومالكك ومليكهم..
وإذا تعلقت بعض القلوب بمن يسمونهم أقطابا أو أوتادا، ولهجت ألسنتهم بسؤال الأموات، وتعفرت وجوههم عند العتبات، فاجعل أنت وجهة قلبك إليه سبحانه، وعفر جبهتك ووجهك بالسجود بين يديه، وارنُ ببصرك نحوه جل في علاه، وعلق به رغباتك، وأنزل به حاجاتك.
وإذا قال بعض الجاهلين: من كان في شدة وكرب فليتوجه إلى السيدة فلانة أو السيد الفلاني.. فقل أنت: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}(الأنعام:79).
وإذا توسل المشركون بآلهتهم ومعبوداتهم من دون الله، أو توسل الجاهلون الضالون، أو الدجالون المضلون بمعبوديهم فقالوا: يا بدوي، أو يا جيلاني، أو .. فتوسل أنت بالأحد الفرد الصمد.. وتوسل أنت إلى ربك ومولاك بأسمائه الحسنى، وقل يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، وقل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام يا بديع السموات والأرض.
وإن قال قائل: إنما هؤلاء وسائل ووسائط نتوسل بهم إلى الله، وندخل بهم عليه، ونجعلهم وسيلة فيما بيننا وبينه، وإنما هم شفعاء يشفعون لنا عند الله.. فأخبرهم أن هذا ما تعلل به الكفار والمشركون في كل عهد وحين.. وقد أثبت الله عليهم هذا في كتابه فقال عنهم: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(يونس:18)، وقالوا أيضا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال تعالى: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار}(الزمر:3).
الوسائل المشروعة والممنوعة
واعلم أن الوسائل إلى الرب جل في علاه منها ما هو مشروع ومنها ما هو ممنوع:
فمن الوسائل المشروعة:
1 ـ التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.. كما قال سبحانه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدن في أسمائه}(الأعراف:180)، وقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}(الإسراء:110).
ومثل هذا أن تقول: يا أرحم الراحمين ارحمنا، أو يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، ومنه دعاء ليلة القدر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة أن تدعو به وتقول: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا).
ومن آداب هذا الباب: أن يتخير الداعي من أسماء الله ما يناسب طلبه وسؤاله، فعند سؤال المغفرة يأتي بأسماء العفو والرحمة، وعند سؤال النصر يختار أسماء القوة والعزة والقدرة ودليل ذلك في أدعية القرآن الكريم وعلى لسان المرسلين:
قال إبراهيم: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(البقرة:127)، {وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)(البقرة:128)، ودعاء عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}(المائدة:118).
2 ـ التوسل إليه بالأعمال الصالحة للداعي: من إيمان، وعبادة، ومحبة لله ولرسوله وللمؤمنين، كدعاء أهل الإيمان في القرآن: {ربنا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}، وقولهم: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}(آل عمران:193، 194).. ومن ذلك أيضا حديث الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم ففرج الله عنهم وهو حديث متفق على صحته.
3 ـ التوسل إليه بدعاء الصالحين الأحياء:
كتوسل سيدنا عمر بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتوسل معاوية بن أبي سفيان بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله عنهما في الاستسقاء أيضا، وكان يزيد من العباد الأتقياء الصالحين.
ومن هذا الباب أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أويس القرني: "إن استطعت أن يستغفر لك فافعل".. فلما لقيه عمر طلب منه أن يستغفر له ففعل.. وحديثه في صحيح مسلم.
لكن ينبغي التأكيد على كون المتوسل إلى الله بدعائه لابد أن يكون حيا حاضرا، أما التوسل بالميت والغائب، فممنوع غير مشروع.
التوسل الممنوع
أولا: أن يتوسل بميت: وهذا النوع من التوسل قد جمع أنواع الشرك الثلاثة: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية، وشرك في الأسماء والصفات؛ فهو لم يدعه وهو ميت غائب إلا وهو يعتقد أنه يسمعه ويعلم حاله، وأنه يستحق منه أن يتوجه إليه بالمسألة، وأنه قادر على إجابة سؤاله.
ثانيا: التوسل بالغائب الذي لا يعرف حال الداعي.. إذ لا يعلم الغيب إلا الله.
ثالثا: التوسل بجاه إنسان أو حاله مع الله.. فإن هذا لا علاقة للداعي به، وليس هو من كسبه ولا عمله، وإنما هو يخص صاحب الجاه والعمل الصالح.. وإنما غاية مثل هذا أن يؤتى أو يطلب منه الدعاء إن صح صلاحه وثبت جاهه.
رابعا: سؤال ما لا يقدر عليه إلا الله ولو من حي حاضر.. كمغفرة الذنب، وهبة الأولاد، وسؤال الهداية، أو جلب خير أو دفع ضر لا يقدر عليه إلا الله.
فإذا سألتم فاسألوا الله.. وإذا دعوتم {فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون}.
والحمد لله رب العالمين.