الوحْي بين بداية نزوله وفتوره

26/10/2025| إسلام ويب

في غار حراء، وفي يوم الاثنين من رمضان من العام الأربعين من مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نزل جبريل عليه السلام بأمر الله عز وجل، يحمل أعظم رسالة إلى أفضل نبي، وكان وقْع نزول الوحي شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: (.. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملَك فقال: اقرأ، قلتٌ: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلتٌ: ما أنا بقارئ، قال: فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطنى الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}(العلق3:1 )، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: لقد خشيت على نفسي..) رواه البخاري.
وقد فَتَرَ (انقطع) الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: الأولى في أول نزوله، ثم نزلت بعده سورة المدثر، والثانية بعد نزول عدة سور من القرآن الكريم، ثم نزلت بعده سورة الضحى.

المرة الأولى لفتور الوحي:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدِّث عن فَترة الوحيِ: (فَبَينا أنا أمشي سمِعتُ صَوتًا منَ السَّماء، فرفعتُ رأسي فإذا الملَك الذي جاءني بحراءٍ جالساً علَى كرسيٍّ بينَ السَّماء والأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجُئِثْتُ منه فَرقاً، فرجعتُ فقلتُ: زمِّلوني زمِّلوني، فدَثَّروني، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ}(المدثر: 1 : 5) ـ وهي الأوثان ـ، قال: ثم تتابع الوحي) رواه مسلم. قال النووي: "قوله (ثم تتابع الوحى) يعنى بعد فترته، فالصواب أن أول ما نزل: {اقْرَأْ}، وأن أول ما نزل بعد فترة الوحى {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ}". وفي رواية للبخاري: (ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن تُوُفِّي، وفترَ الوَحْي)، وفتر الوحي معناه: احتباسه وتأخر مجيئه، وعدم تتابعه وتواليه في النزول مدة من الزمان"، قال الزرقاني: "وفتر الوحي أي: احتبس جبريل عنه بعد أن بلغَّه النبوة".

المرة الثانية لفتور الوحي:
عن جُنْدُب بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أبطأ جبريلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: قد وُدِّع محمدٌ، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}(الضحى: 3:1)) رواه مسلم. وورد في البخاري روايتان عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، إحداهما بلفظ: (قالت امرأة: يا رسول الله، ما أرى صاحبك إلا أبطأك فنزلت: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى})، والثانية بلفظ: (فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك)، قال ابن كثير والبغوي: "قيل: إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب"، وقد رجح ابن حجر أن تكون صاحبة المقالة في الرواية الأولى هي: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها لأنها قالت: (يا رسول الله) وعبرت عن جبريل بقولها: (صاحبك)، وصاحبة المقالة في الرواية الثانية هي: أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب وامرأة أبي لهب، وشتان بين المراد من المقالتين، فالأولى قيلت توجُّعَاً وأسفاً، والثانية قيلت تهكماً وشماتة، فقال ابن حجر: "وسياق الأولى يشعر بأنها قالته تأسُّفَاً وتوجعاً، وسياق الثانية يشعر بأنها قالته تهكما وشماتة". وقال ابن عاشور: "واحْتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين: أولاهما: قبل نزول سورة الْمُدَّثِّر أَو المزَمِّلِ، وتلك الفترة هي التي خَشِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَن يكون قد انقطع عنه الوحي، وهي التي رأَى عَقِبها جبريلَ على كرسيٍّ بين السماء والأرض. وثانيتهما: فترة بعد نزول نحو من ثمان سُور، أَي السّورِ التي نزلت بعد الفترة الأولى، فتكون بعد تَجَمُّعِ عَشْرِ سُوَرٍ".

مدة انقطاع الوحي وفتوره:
اختلف العلماء في مدة فترة الوحي الأولى، فقيل ثلاث سنين، وقيل قريباً من سنتين، أو سنتين ونصف، وقيل اثنا عشر يوماً، وقيل خمسة عشر يوماً، وقيل أربعون يوماً، وقيل غير ذلك.. قال ابن حجر: "والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول {وَالضُّحَى} غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك (الأولى) دامت أياماً، وهذه (الثانية) لم تكن إلا ليلتي أو ثلاثاً". وقال ابن عاشور: "وَقَدْ قِيلَ: إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوماً".. أما فترة (انقطاع) الوحي الثانية فكانت ليلتين أو ثلاثا. قال المباركفوري: "أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال، والصحيح أنها كانت أياماً. وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنين أو سنتين ونصف فليس بصحيح".
والحكمة من فتور الوحي: أن يذهب الروْع الذي كان قد وجده النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه لما نزل عليه جبريل عليه السلام أول مرة، وليحصل له الاشتياق إلى عودة الوحي، ولتنزل السلوى على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله تعالى، فيزداد إيماناً وتثبيتاً، وليبتلي الله الناس فيثبت المؤمنين ويضل الكافرين.. قال ابن حجر: "وفتور الوحي: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الرَّوْعِ، وليحصل له التَّشَوُّق إلى العَوْد".

شبهة محاولة انتحار النبي بسبب فتور الوحي:

مِن الشبهات والافتراءات والأباطيل التي أثارها أعداء الإسلام قديما وحديثا: اتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بمحاولة الانتحار بسبب انقطاع الوحي وفتوره، واستدلوا على ذلك بحديث جاء في صحيح البخاري وفي آخر الحديث زيادة ضعيفة وفيها: "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حُزناً غدا منه مراراً كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال".
وردا على هذه الشبهة الباطلة قال ابن حجر في شرحه للحديث: "القائل: (فيما بلغنا) هو الزهري، وهو من بلاغاته وليس موصولًا"، فهذا الجزء من الحديث الذي يُذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كاد يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال جاء في رواية معمر عن الزهري، والزهري ـ كما هو معلوم ـ تابعي لم يُعاصر النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو يراه أو يسمع منه، فالواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مجهولة، ولم يذكر الزهري مَن أبلغه بهذه القصة، فتكون هذه الزيادة ـ التي فيها محاولة الانتحار ـ مرسلة، والحديث المرسل هو الذي يرويه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث المرسل من أقسام الحديث الضعيف، ولذلك هذه الرواية تسمى: من بلاغات الزهري، فالزهري قال: "فيما بلغنا"، ومن أبلغه بذلك مجهول، ولا يُعرف هل هو عدْل أم لا، وهل هو ضابط للحفظ أم لا، والعدالة والضبط من شروط صحة الحديث عند علماء الحديث، ومن ثم فحكم هذه الزيادة الإرسال، ومرسل الإمام الزهري ضعيف عند علماء الحديث..
وقال الشيخ الألباني رداً على مَنْ عَزى نص الزهري للبخاري: "هذا العزو للبخاري خطأ فاحش، ذلك لأنه يوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري، وليس كذلك.. وخلاصة القول أن هذا الحديث ضعيف لا يصح، لا عن ابن عباس ولا عن عائشة، ولذلك نبهتُ في تعليقي على كتابي مختصر صحيح البخاري على أن بلاغ الزهري هذا ليس على شرط البخاري كي لا يغترّ أحد من القراء بصحته لكونه في الصحيح".
وقد وردت قصة محاولة انتحار النبي صلى الله عليه وسلم بسبب انقطاع الوحي من طرق أخرى كلها ضعيفة كما ذكر ذلك علماء الحديث قديما وحديثاً، وبهذا يتبين أن هذه القصة واهية وباطلة.
هذا مع أنه لا يوجد حرج فى أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد اعتراه شيء من الحزن بسبب فتور الوحي وانقطاعه، ولا عجب في أن يغدو إلى قمم الجبال تطلعاً للقاء جبريل أمين الوحي الذى عهد لقاءه في هذا المكان، فهذا أمر فطرى وطبيعي، فالإنسان إذا حصل له خير أو نعمة في مكان ما، فإنه يحب هذا المكان، ويلتمس فيه ما افتقده، ولذلك لما فتر الوحي: صار النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من ارتياد قمم الجبال، ولاسيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل في غار حراء، فليجده في غيره، فرآه راوي هذه الزيادة وهو يرتاد قمم الجبال، فظن أنه يريد أن يلقى بنفسه، وقد أخطأ الراوي المجهول في ظنه قطعاً، فإن الله عز وجل عصم رسله لأنهم أمناء وحيه إلى عباده، وجعلهم قدوة لمن آمن بهم واتبعهم من خلقه، والحكمة تقتضي أن يكون الرسل معصومين في قلوبهم وعقولهم وأخلاقهم، لأنهم لو لم يكونوا معصومين لجاز عليهم مما يجوز على غيرهم من فعل ما نهوا عنه، أو محاولتهم الانتحار.

إن بداية نزول الوحي من أهم وأعظم اللحظات فى تاريخ البشرية وليس في تاريخ المسلمين وحدهم، إذ كانت إشراقاً لشمس النبوة، وميلاداً جديداً للإنسانية، فقد أوحى الله تعالى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه ـ خاتم أنبيائه ورسله ـ ليكون للعالمين رحمة وهداية، وسراجا ونوراً، يضيء لهم حياتهم وطريقهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}(الأحزاب:46:45)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:107).قال ابن كثير: "يخبر تعالى أن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة، سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة". وقال السعدي: "فهو رحمته المهداة لعباده، فالمؤمنون به، قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وقاموا بها، وغيرهم كفرها، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأبَوا رحمة الله ونعمته". 

www.islamweb.net