قصة جميلة قرأتها قديما مع ما يقرؤه الإنسان في وسائل التواصل، كنت أظنها من نسج خيال صاحبها، خصوصا وفيها ضرب من الخيال في وقائعها، ولكنني قرأت في بعض المواقع اسم صاحب القصة أو بالأحرى صاحبيها، وعندما رجعت إلى الشبكة العنكبوتية وبحثت عن صاحب القصة وجدتها بالفعل واقعا صحيحا، فسقتها هنا لأنها تصلح أن تكون أنموذجا لجهاد الشاب المخلص المثابر صاحب الهمة العالية.. والقصص أحيانا يكون فيها عبرة وأسوة طيبة:
القصة سيقت على لسان أحد شخصياتها وأبطالها، وهو الدكتور محمد خاني حيث يقول: في أحد الأيام كنت داخل سيارتي، إذ جاء شاب في السادسة عشرة من عمره.. وقال: هل أنظف لك الزجاجة الأمامية؟
قلت: نعم، فنظفه بشكل رائع، فأعطيته عشرين دولارا.
فتعجب الشاب وسألني: هل أنت عائد من أمريكا؟
قلت: نعم.
قال: هل يمكنني أن أسألك عن جامعاتها بدل أجرة التنظيف؟
كان مؤدبا لدرجة أنني اضطررت إلى أن أدعوه إلى جانبي لنتحدث..
فسألته: كم عمرك؟
قال: ست عشرة سنة.
قلت: في الثانية المتوسطة؟
قال: بل أتممت السادسة الإعدادية.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: لأنهم قدموني عدة سنوات من أجل علاماتي الممتازة في جميع المواد.
قلت: فلماذا تعمل هنا؟
قال: إن والدي قد توفي وأنا في الثانية من عمري، وأمي تعمل طباخة في أحد البيوت، وأنا وأختي نعمل في الخارج.. سمعت أن الجامعات الأمريكية عندها منح دراسة للطلاب المتقدمين.
قلت: وهل هناك من يساعدك؟
قال: أنا لا أملك إلا نفسي.
قلت: دعنا نذهب للأكل.
قال: بشرط أن أنظف لك الزجاجة الخلفية.
فوافقت.. وفي المطعم طلب أن يأتوا بطعامه سفاريا لأمه وأخته بدل أن يأكل.. لاحظت أن قدرته اللغوية الإنجليزية ممتازة، وأنه ماهر بمعظم ما يقوم به من الأعمال.
اتفقنا أن يأتيني بالوثائق خاصته من البيت، وأحاول له ما استطعت.
وبعد ستة أشهر حصلت له على القبول، وبعد يومين من ذلك اتصل بي وقال: إننا في البيت نبكي من الفرح والله.
وبعد سنتين نشروا اسمه في مجلة نيويورك تايمز كأصغر خبير بالتكنولوجيا الحديثة، سعدنا بذلك أنا وأهلي كثيرا، وقامت زوجتي بأخذ الفيزا لأمه وأخته دون علمنا، وبعد أن رأى هذا الشاب أمه وأخته أمامه في أمريكا لم يستطع التكلم ولا حتى البكاء.
وفي أحد الأيام كنت أنا وأهلي في الداخل، إذ رأيناه في الخارج يغسل سيارتي! فاعتنقته وقلت: ماذا تفعل؟!!
قال: دعني لئلا أنسى نفسي ماذا كنت من قبل وماذا صنعت أنت مني!!
حقيقة لا خيال
القصة إلى هنا تصلح في حبكتها أن تكون من قصص الخيال الأدبي، وإلى هنا كنت أقرؤها على أنها قصة كتبها صاحب الحساب ليجمع بها الإعجابات، ويزيد بها عدد قراء موقعه.
ولكن الكاتب قال في نهاية كلامه: هذا الشاب اسمه (ف. ع)، وهو الآن واحدا من أفضل وأشهر الأساتذة في جامعة هارفارد الأمريكية!!
فلما قرأت الاسم حملني الفضول على البحث عن صاحب هذا المسمى فإذا هو:
شاب عربي من أصل فلسطيني، مات والده في صغره وهو في الثانية من عمره ـ كما جاء خلال القصة ـ كان متميزا في الفهم والذكاء، متفوقا في الدرس والتحصيل حتى رفع إلى فصل دراسي أكبر من سنه.
كان يكافح مع والدته وأخته من أجل لقمة العيش ومواجهة صعوبات الحياة، فكان يعمل ليساعد نفسه وأمه وأخته، وكذلك كانتا هما أيضا.
نشأة واضح منها أنها كانت صعبة ملؤها الكد والكفاح.
ساق الله له هذا الرجل الشهم الكريم والإنسان النبيل الدكتور محمد الخاني، وكان غسيل السيارة مفتاحا للحديث بينهما، وبعد أن عرف الدكتور قصته حملته مروءته على مساعدته.. فسعى له لتحصيل منحة دراسة حتى وفق في مساعيه وكلل جهده بالنجاح.. فقدم للفتى الصغير خدمة العمر.
لم يُفَوِّت صديقنا الصغير الفرصة، وسافر، وجد واجتهد حتى بز أقرانه وفاق أصحابه وإخوانه، وتميز حتى كتبت عنه مجلة نيويورك تايمز بعد عامين فقط كأصغر خبير بالتكنولوجيا الحديثة.
وتخرج الشاب المثابر بقسم اللغات والترجمة، وحصل على الماجستير والدكتوراه، وصار محاضرا في جامعة هارفارد وهي واحدة من أعرق الجامعات في الولايات المتحدة.
جاء في موسوعة الويكيبيديا عنه: هو شخصية فلسطينية بارزة في المجتمع الفلسطيني، له تأثير ومكانة مرموقة، حيث تميز بنجاحه وتحديه لجميع العقبات والظروف الصعبة، كما إن اسمه ومكانته ليست معروفة على مستوى فلسطين فقط، بل وفي الولايات المتحدة الأمريكية أيضا.
إن هذا الفتى يصلح أن يكون نموذجاً يُحتذى للنجاح والمثابرة والتغلب على صعوبات الحياة ومرارة اليتم، وضغط الفقر لتحقيق الأهداف والطموحات، واستطاع بالفعل أن يثبت نفسه، ويحقق حلمه.
ولا يمكن أن ننسى فضل صاحب الفضل بعد الله وهو الدكتور محمد، وهذه النفس الطيبة والمروءة العالية في مساعدة المحتاج، والسعي في قضاء حاجته، وتيسير منحته، ولولا هذا لما كان لصاحبنا قصة، ولا كان له ما كان.
ولا ينبغي أبدا أيضا أن ننسى الوفاء من الصبي بعد أن أصبح دكتورًا، وعدم نسيانه لما قام به الدكتور ومحاولة إثبات اعترافه بالفضل والإحسان له... مع التواضع الشديد وعدم الاغترار بما وصل إليه من مكانة مرموقة ومقام كبير.. وهذا دليل على صفاء نفس وحسن تربية واعتراف بفضل الله عليه.
إننا في حاجة لنتعلم كل هذه الدروس ونتأسى بكل هذه الصفات الطيبة، لعل الله يصلح لنا الأحوال، ويغير لنا الواقع.. والله غالب على أمره.. والحمد لله رب العالمين.