مراعاة معهود العرب في فهم الحديث النبوي

23/06/2024| إسلام ويب


من أدوات الفهم الصحيح للنص النبوي مراعاة المعهود اللغوي والعرفي في تفسير الألفاظ وفهم التراكيب، والرجوع في ذلك إلى الأساليب الخطابية لعرب الرسالة الذين نزل فيهم الوحي، فالشريعة عربية اللسان، عالمية الاتباع، فما كان من التفسيرات منسجما مع معهود العرب في خطابها كان مقبولا، وما خرج عن ذلك فيعدل عنه، وسيتبين ذلك من خلال التطبيقات.

النهي عن النعي والمراثي للميت:
وردت نصوص نبوية تنهى عن النعي، ونصوص أخرى تبيحه، ففي سنن الترمذي عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية».
وورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربعا».

فكان لا بد من الرجوع بلفظ النعي إلى مفهومه في عرف العرب حين الرسالة، فهو المقصود بالنهي، وإذا رجعنا إلى مألوف خطابهم وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن النعي المعروف في وقت الخطاب، وهو إشاعة خبر الموت مشتملا على ذكر مفاخر الميت، وتعداد مناقبه، وتعظيم فقده، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية، وأما مجرد الإعلام بالموت فليس من النعي.

قال الإمام النووي في شرحه على مسلم عند حديث نعي النجاشي: " وفيه استحباب الإعلام بالميت لا على صورة نعي الجاهلية بل مجرد إعلام الصلاة عليه وتشييعه وقضاء حقه في ذلك والذي جاء من النهي عن النعي ليس المراد به هذا وإنما المراد نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وغيرها". انتهى

ومثله حين نتأمل أحاديث النهي عن المراثي، وأحاديث تدل على جوازه، ففي مسند الإمام أحمد عن ابن أبي أوفى، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي». 
وورد عن في صحيح البخاري في حديث مرض سعد ابن أبي وقاص «إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة، ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد ابن خولة» يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وفي صحيح البخاري أيضا عن أنس، قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أباه، فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم»، فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس، مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.

وحين نرجع إلى معهود العرب نجد أن المقصود بالمراثي المنهي عنها هي المراثي المشتملة على ما يهيج النفس على الجزع وقلة الصبر، مما كان معهودا عند أهل الجاهلية.
قال الخطابي في غريب الحديث: انما كُره من المراثي النياحة على مذهب الجاهلية، فأما الثناء والدعاء للميت فغير مكروه؛ لأنه رثى غير واحد من الصحابة، وذكر فيه وفي الصحابة كثير من المراثي. انتهى.
 
حديث رؤية الهلال:
في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدُروا له».
هذا الحديث فيه إثبات دخول الشهر وخروجه برؤية الهلال، وفي حال عدم الرؤية لمانع غيم أو غيره فيقدر له، فحمل بعضهم ذلك على إكمال عدة شعبان، وحمله آخرون على التضييق، وهذان المعنيان يحتملهما اللفظ، وإن كانت الروايات قد رجحت إكمال عدة شعبان ثلاثين.
وأما من حمله على الحساب الفلكي فهذا لا يصح؛ لأن الحساب الفلكي لم يكن من معهود العرب، ولا من علومهم، والخطاب النبوي إنما يفسر بمعهود المخاطبين يومئذ، هذا من ناحية تفسير النص، أما من ناحية مشروعية الأخذ بالحساب الفلكي، أو غيره من الوسائل الحديثة فذلك أمر آخر.
 
أحاديث التصوير:
في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم أحيوا ما خلقتم».
فهل لفظ الصور أو التصوير الوارد في الحديث يشمل التصوير الفوتوغرافي بالآلات الحديثة؟ حصل فيه الخلاف بين المعاصرين، فقال بعضهم: هو تصوير محرم، لدخوله تحت عموم الألفاظ النبوية، فيقال فيه: صورة، فلا يجوز منه شيء إلا عند الضرورة، أو الحاجة، ومنهم من قال: بأن هذا ليس تصويرًا بالمعنى الوارد في الأحاديث. 
ومما يؤيد القول الثاني أن التصوير المعهود عند العرب وقت الخطاب النبوي ليس هو التصوير الفوتوغرافي الآن، جاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية برقم (8035): وإنما أُطْلِقَ اسم التصوير على التقاط الأشكال الفوتوغرافية مجازًا؛ تشبيهًا له بالتصوير اللغوي؛ فإن التصوير في أصل الوضع اللغوي هو مصدر "صوَّر"؛ أي: "جعل له صورة مجسَّمة"؛ كما في "المعجم الوسيط"، "والتصاوير: التماثيل"؛ كما في "الصحاح" للجوهري.
ولذلك فالتصوير الفوتوغرافي يختلف عن التصوير الذي ورد النهيُ الشرعيُّ عنه؛ إذ إنه يغايره في حقيقته ويباينه في علة تحريمه.
فأمَّا كونه مغايرًا له في الحقيقة؛ فالتصوير الفوتوغرافي: انحباس ظل، والتصوير الذي ورد النهي عنه: هو التمثيل أو ما جُعِل على نظير مثال سابق قابل للأبعاد الثلاثة، يقال: مثلت الشيء؛ أي: جعلت له مثالًا أو تمثالًا. 
 
حديث غناء الجاريتين:
في الصحيحين عن عائشة، قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت به الأنصار، يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا».
فلا يصلح أن يكون هذا الحديث مستندا للقول بجواز الأغاني بحقيقتها الحاصلة اليوم فالغناء الوارد في الحديث له تفسير معهود عند العرب وهو الذي يجب تفسيره به، ولا يصح تفسير اللفظ بمعنى حادث يختلف حقيقة ولفظا.
قال القاضي كما نقله النووي في شرحه على مسلم: إنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا انشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت وليستا بمغنيتين، أي: ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى والغزل. انتهى.

وقد نبه على ذلك الحافظ ابن رجب في فتح الباري فقال: ولا ريب أن العرب كانَ لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل، ليس فيها جلاجل، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان في معناها. فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد اعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه، حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وروي عنه - مرفوعا. انتهى

فالالتزام بمعهود العرب في تفسير النصوص النبوية أصل ثابت، وقد جرى عليه علماء الإسلام قديما وحديثا، وهو عصمة من الزلل في فهم النصوص، وصرفها عن معانيها المقصودة، يقول الشاطبي في الموافقات: " القرآن الكريم ليس فيه من طرائق كلام العجم شيء، وكذلك السنة، وأن القرآن عربي، والسنة عربية، بمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها". انتهى

ومقتضى هذا أن تفهم ألفاظ الوحي وتراكيبه في إطار أساليب العرب وقت التنزيل والورود، " فيسلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة؛ فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها، لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع، وفي ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع".

 

www.islamweb.net