
من الآيات المخبرة عما يكون يوم الحساب ويوم الجزاء قوله عز من قائل: {يوم تبلى السرائر} (الطارق:9) هذه الآية تفيد أن أعمال الإنسان جميها تعرض عليه يوم الحساب صالحها وطالحها، وخيرها وشرها، وخالصها وشائبها.
و(السرائر) جمع سريرة، وهي ما يسره الإنسان ويخفيه من نواياه وعقائده. و(بَلْوُ السرائر) اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء. قال الزمخشري (ت538هـ): "{السرائر} ما أُسِرَّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أُخْفِيَ من الأعمال، و(بلاؤها) تعرّفها وتصفُّحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث". و(بَلْوُ) الأعمال الظاهرة والأقوال مستفاد بدلالة الفحوى من بَلْوُ السرائر.
رويَ عن قتادة (ت118هـ) في قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} قال: إن هذه السرائر مختَبَرَة، فأسِرّوا خيراً وأعلنوه إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. وعن سفيان الثوري (ت161هـ): {يوم تبلى السرائر} قال: تُخْتَبَر. ففي الدنيا، تنكتم كثير من الأمور، ولا تظهر عِياناً للناس، وأما يوم الحساب، فيظهر بِرُّ الأبرار، وفجور الفجار، وتصير الأمور علانية، وتظهر المستترات والمكنونات والضمائر وتبدو للعِيان، ويصبح السر علانية والمكنون مشهوراً، ويظهر ما كان في القلوب مستوراً؛ وقد جاء في "الصحيحين" عن رسول لله صلى الله عليه وسلم، قوله: (يُنصب لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان بن فلان)، والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفيًّا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير عَلَماً منشوراً على صاحبه بما فعل.
وذكر الماوردي (ت450هـ) عن زيد ابن أسلم (ت136هـ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأمانة ثلاث: الصلاة، والصوم، والجنابة؛ استأمن الله عز وجل ابن آدم على الصلاة، فإن شاء قال: صليتُ، ولم يصلِّ. استأمن الله عز وجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال: صمتُ، ولم يصم. استأمن الله عز وجل ابن آدم على الجنابة، فإن شاء قال: اغتسلتُ، ولم يغتسل، اقرؤوا إن شئتم {يوم تبلى السرائر}.
قال مالك (ت179هـ) في رواية أشهب (ت204هـ) عنه، وسأله عن قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} أَبَلَغَك أن الوضوء من السرائر؟ قال: "قد بلغني ذلك في ما يقول الناس، فأما حديث أخذته فلا. والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال: صليتُ، ولم يصلِّ. ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد".
قال ابن العربي (ت543هـ): "قال ابن مسعود: يُغفر للشهيد إلا الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، الوديعة من الأمانة، وأشد ذلك الوديعة، تُمَثَّلُ له على هيئتها يوم أخذها، فَيُرْمَى بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه وهو يتبعها، فهو كذلك دهر الداهرين.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: يبدي الله يوم القيامة كل سِرٍّ خَفِيَ، فيكون زَيْناً في الوجوه، وشَيناً في الوجوه. والله عالم بكل شي، ولكن يُظهر علامات الملائكة والمؤمنين.
وقد يُظْهِرُ الله تعالى أعمال العبد للناس في الدنيا، كما روى الإمام أحمد (ت241هـ) عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كُوَّةٌ، لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان). وقد ورد: أن أعمال الأحياء تُعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما روى أبو داود الطيالسي (ت204هـ) عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعمالكم تُعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك، قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك). وروى الإمام أحمد عمن سمع أنساً رضي الله عنه، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعمالكم تُعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك، قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا).
والمعنى الذي رمت إليه الآية الكريمة جاء في آيات أُخَرَ عديدة؛ من ذلك قوله عز وجل: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} (الأنعام:28) أي: ظهرت فضيحتهم في الآخرة، وانهتكت أستارهم.
وقوله عز وجل: {وبرزوا لله جميعا} (إبراهيم:21) فالبواطن تظهر في ذلك اليوم، والأحوال الكامنة تنكشف؛ فإن كانوا من السعداء برزوا للحاكم الحكيم بصفاتهم القدسية، وأحوالهم العلوية، ووجوههم المشرقة، وأرواحهم الصافية المستنيرة، فيتجلى لها نور الجلال؛ ويعظم فيها إشراق عالم القدس، فما أَجَلَّ تلك الأحوال، وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف العظمة، ومنازل الكبرياء ذليلين مهينين خاضعين خاشعين، واقعين في خزي الخجالة، ومذلة الفضيحة، وموقف المهانة والفزع.
ومنها: قوله عز من قائل: {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء} (غافر:16) هذه النفوس الناطقة البشرية كأنها في الدنيا انغمست في ظلمات أعمال الأبدان، فإذا جاء يوم القيامة أعرضت عن الاشتغال بتدبير الأبدان، وتوجهت بالكلية إلى عالم الآخرة، وقد برزت بعد أن كانت كامنة في الأبدان مستترة بها.
ومنها: قوله تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} (الحاقة:18) فيوم القيامة يُعرض العباد للحساب والجزاء، لا يخفى على الله من أمرهم شيء، فإنه سبحانه عالم بكل شيء، وكاشف لعباده ما كانوا يُسِرُّونه ويسترونه.
ومنها: قوله عز وجل: {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم} (النحل:26-27) أي: يُظْهِرُ سبحانه فضائحهم، وما كانت تكنُّه ضمائرهم، فيجعله علانية.
ومنها: قوله عز من قائل: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} (يونس:30) أي: في موقف الحساب يوم الجزاء، تُختبر كل نفس، وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر.
ومنها: قوله تعالى: {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (التوبة:105) قال مجاهد (ت104هـ): هذا وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه تعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة.
ومنها قول الباري سبحانه: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} (الزمر:47) قال سفيان الثوري في هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار (ت159هـ): جزع محمد بن المنكدر (ت130هـ) عند موته جزعاً شديداً، فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب.
ومنها: قوله سبحانه: {ووجدوا ما عملوا حاضرا} (الكهف:49) أي: وجدوا ما عملوا من خير وشر، كما قال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء} (آل عمران:30) .
ومنها: قوله تعالى: {ينبؤاْ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} (القيامة:13) أي: يُخبر الإنسان بما أسلف من عمل سيئ أو صالح، أو أخَّر من سُنَّة سيئة أو صالحة يُعْمَلُ بها بعده، قاله ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. وقال قتادة في معنى الآية: "بما قدم من المعصية، وأخَّر من الطاعة"، كما قال تعالى: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} (الانفطار:5).
والمستخلص مما تقدم، أن نشأة الإنسان البالغة الدقة والحكمة، تذهب كلها عبثاً إذا لم تكن هناك رجعة؛ لِتُخْتَبَرُ السرائر، وتُجزى جزاءها العادل...السرائر المكنونة، المطوية على الأسرار المحجوبة...يوم تُبلى وتُختبر، وتتكشف وتظهر، كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر، وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفقة بالسواتر! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر، ما له من قوة في ذاته، وما له من ناصر خارج ذاته.