القرآن حياة القلوب

23/03/2025| إسلام ويب

من المعلوم شرعاً وعقلاً وبداهة أن القرآن الكريم أكبر منَّة امتن الله تعالى بها على هذه الأمة، ففيه حياة القلوب، ويحصل بالتمسك به سعادة الدارين، لم تظفر الدنيا كلها بكتاب أجمع للخير كله، وأهدى للتي هي أقوم، وأوفى بما يسعد الإنسانية، من هذا القرآن المجيد الذي فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صمًّا، وقلوباً غُلفاً، وهدى به من الضلالة، وبصَّر به من العمى، وأخرج به العباد من الظلمات إلى النور، هذا القرآن الكريم الذي ضمن للإنسانية الأمن والسعادة في دنياهم وأخراهم، إذا هم آمنوا به، وتلوه حق تلاوته، وتفهموا سوره وآياته، وتفقهوا جمله وكلماته، ووقفوا عند حدوده، وامتثلوا لأوامره، واجتنبوا نواهيه، وتخلَّقوا بأخلاقه، وطبقوا مبادئه ومُثُلَه وقيمه على أنفسهم وأهليهم ومجتمعاتهم، قال الله فيه: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} (الإسراء:9).

إن الله الذي جعل الأرض تحيا بالمطر، جعل القلوب تحيا بهذا القرآن، قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون * اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} (الحديد:16-17) وجاء بعد هذه الآية وقبلها ما أشعر بأن المراد بالآية حياة القلوب، قال ابن كثير: "فيه إشارة إلى أنه تعالى يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتَّان -الوابل- كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل".

فلِمَ بقيت الأرض تحيا بالمطر، ولم تبقَ القلوب تحيا بالقرآن؟ ولِمَ تقدُّم الناس في طبِّ الأبدان، ولم يتقدموا في طب القلوب؟ ولِمَ يصيب أحدَنا الألمُ اليسير أو الجرح الصغير، فلا يقر له قرار حتى يلقى الطبيب، ويموت قلبه فلا يشعر به، فهل مرض البدن أخطر من مرض القلب؟ وهل يمكن أن يحيا البدن والقلب ميت؟ 

إنه لا ينفعنا أن نحيا وقلوبنا ميتة، فلِمَ -إذن- كل هذا الزهد في ما لا صلاح لدنيا ولا لأخرى إلا به؟ لذلك لم تبق لنا دنيا ولا دين يوم أضعنا قلوبنا، وما ساعد على موت هذه القلوب اصطدامنا بهذه المدنية الزائفة التي تخدع بالطلاء وتغري بالبهرج، وتُعنى من الحياة بجانبها المادي فحسب، ولا تحسب للقلب والروح أي حساب، إن القلوب ماتت يوم ولدت هذه المدنية التي تستحلُّ أن تقضي على أجهزة القلوب كلها في سبيل عبادة الجسد، والوصول إلى سيادة المادة.

كرست المدنية المعاصرة الاهتمام بالصور والمظاهر، والإسلام ينظر إلى القلوب والضمائر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم. وإن الإسلام جعل صلاح هذه القلوب وشفاءها ويقظتها في العكوف على مدارسة القرآن وتدبره، والله تعالى يقول: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (الإسراء:82) ولكن القرآن معنا وقليل من هو مقبل عليه، وأقل من ذلك من هو متدبر له، فكيف تحيا قلوبنا وهي لا تستمد الحياة من مصدر الحياة ومنبع النور؟ وكيف نقضي على الداء، ونحن نُعرض عن الدواء؟ والعجب أن دواءنا معنا، وداؤنا يكاد يقضي علينا!

                                                     كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

وقد قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى:52)، قال المفسرون: "وتأويل تسمية القرآن بالروح أن القرآن حياة القلوب وحياة النفوس في ما تصير إليه من الخير عند الله عز وجل"، فسمَّى الله القرآن {روحاً} لأنه تحيى به القلوب؛ فالقرآن حياة القلوب، وقد جعله الله نوراً يهدي به من يشاء من عباده هداية إرشاد وهداية توفيق، وهداية الإرشاد هي بالدلالة والعلم، ويقوم بها كل داعٍ إلى الحق، وهداية التوفيق هي بالتوفيق للعمل، وهي خاصة بالله وحده.

وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الأنفال:24)، يعني: القرآن الذي به حياة القلوب، قال قتادة: "هو القرآن؛ لأنه حياة القلوب، وفيه النجاة والعصمة في الدارين". فالقلب الذي ليس فيه شيء من القرآن قلب خرب، عشعشت فيه الشياطين، قلب أغلف، قلب محجوب عن رحمة الله تعالى.

وقال عز وجل: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} (الزمر:21) فكما أن المطر فيه الحياة وفيه الغوث للخلق، كذلك القرآن فيه حياة القلوب، وفيه الإغاثة للخلق والإجارة من أن يعذبوا في النار لو أنهم آمنوا بالقرآن، فإنهحافظهم عند الله سبحانه، واستحقوا به أن ينالوا رحمة الله تعالى. وقال عز شأنه: {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق} (البقرة:19) (الصيب) المطر الذي يصوب من السماء، أي ينزل منها بسرعة، قال ابن القيم: "وهو مثل للقرآن الذي به حياة القلوب، كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات".

فالقرآن يُحيي الله به القلوب الميتة، والقرآن يشفي الله به القلوب المريضة، والقرآن يليِّن الله به القلوب القاسية؛ فأما القلوب الميتة فالله سبحانه يقول: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام:122)؛ فالقرآن حياة القلوب، والقرآن يشفي الله به القلوب المريضة من الشبهات والشهوات، {وشفاء لما في الصدور} (يونس:57) وماذا في الصدور إلا القلوب؟ والقرآن يلين الله به القلوب القاسية، {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد:28)؛ لأن القلوب إذا ماتت، أو مرضت، أو قست، ثقلت عليها الطاعات، ومالت إلى الشهوات.

فالقرآن الكريم روح به تحيا القلوب، وبه تنمو المَلَكات وتقوى وتسمع وتبصر وتزيل العوائق التي تفصل بين القلب والقرآن، وآية واحدة كفيلة بتغيير حياة الإنسان بانتقاله من الضلالة إلى الهدى. ويروى عن الإمام الشافعي أنه قال في سورة العصر: "لو ما أنزل الله حجة على عباده إلا هذه السورة لكفتهم".

والقرآن إذا خالطت آية منه القلب أحيت الإنسان ظاهراً وباطناً؛ فالقرآن حبل الله المتين فمن أي طرف أو مكان لمست هذا الحبل أثَّر بمُمْسِكِه، فطرفه بيد الله وطرفه الآخر بيد العباد، فأي جزء أخذ العباد منه سرى سرُّه في القلوب، فارتجفت به وحييت، قال عز وجل: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} (الزمر:23). 

ولقائل أن يقول: فما فائدة القرآن كله إذا كانت آية واحدة كافية لحياة القلوب؟ والجواب: إن مهمة القرآن الكريم ليست حياة القلوب فحسب، إنما هي وضع منهاج العمل الذي تنتظم به الحياة حتى لا يضل المرء عملاً واعتقاداً أثناء سيره إلى الله.

وحسب القرآن من العظمة أنه يتصل بالحياة ما بقيت الحياة؛ فبه حياة القلوب بالإيمان، وبه حياة الإيمان بالجهاد، وبه قيام الجهاد بمنهجه الأمثل في تربية الإنسان الأمثل، وبهذا الإنسان الموصول بالقرآن تنبض الحياة بالعدل، وبه يدبر الظلم والإلحاد. يقول ابن القيم: "ومن أسباب حياة القلوب الإقبال على الله، وتعظيمه، وتدبر الوحي بشقيه القرآن والسنة، والشوق إلى الله والإنابة إليه، والندم على المعاصي، والحذر من الوقوع فيها، ومخالفة هوى النفس، والاستعداد للآخرة، وصحبة الصالحين". ومن أعظم القربات، وأعظم المواعظ، وأفضل أسباب حياة القلوب تدبر القرآن، والتفكر في قصصه ومواعظه، وحججه وبيناته وأدلته، قال عز وجل: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} (الحشر:21) فلو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ولَبَدَتْ على صلابتها ورزانتها ذليلة متشققة من خشية الله. 

قال ابن القيم رحمه الله: "لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر، والتفكر...وهذا الذي يورث المحبة، والشوق، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والرضا، والتفويض، والشكر، والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله. وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها؛ فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردِّد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام بآية يردِّدها إلى الصباح، وهي قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة:118).

يُروى عن الإمام النووي رحمه الله، أنه اقتنى كتاب "القانون" لابن سينا، وهو كتاب في الطب، يقول: "لما اقتنيته أظلم قلبي، وعالجت الحفظ، فلم أستطع، حاولت الفهم ما استطعت، حتى أخرجته من بيتي، والله المستعان".

فإذا كان العبد دائم الصلة بالقرآن له في كل يوم غدوة إلى حلقة يتلقى فيها علوم القرآن، وله في كل ليلة ورد يقوم به آناء الليل، ووقت يمضيه في المراجعة والمدارسة، وإذا كان هذا القرآن هو غياث النفوس، فهو الذي يذكِّر ويعظ، فلا شك أنه حي القلب؛ لأنه على صلة بالقرآن، شاحذ الهمم وذاكر للآخرة، ولكن ما الظن بأناس لا يقرؤن القران إلا لماماً، ولا ينظرون المصحف إلا نادراً، ولا يسمعون الآيات إلا فترة بعد فترة، بل إن بعضهم موعده مع القرآن في رمضان، ويعقبه هجر طويل، فما الظن بقلوب هؤلاء؟! ألا يُرى أنها تصبح أقسى من الصخر والحجر، بل هي أشد قسوة؛ فإن العبد باشتغاله بالقران يحفظ الحياة على قلبه، ويحفظ الانشراح والسعة لصدره، فما أعظمه من نفع وفائدة يجد أثره عندما يرى المحرومين من هذه النعمة الكبرى، وبضدها تُعرف الأشياء.

وقد نعى ابن القيم رحمه الله أولئك المعرضين عن القرآن، فقال: "فسبحان الله كم حُرم المعرضون عن القرآن واقتباس الهدى من مشكاته من الكنوز والذخائر؟! وكم فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر؟! قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكراً، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبراً، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجوراً، درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، ووقعت أعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظُلَمِ آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها، خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلات، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين".

هذا القرآن هو روح الأجساد، فما قيمة الجسد إذا سُلبت منه الروح، إن الجسد إذا فارقته الروح أنتن وأصبح جيفةً تعافها النفوس، وتوقف فلا حركة ولا انطلاق ولا عمل ولا إنتاج، إذا سُلب القرآن من القلب، فإن الإنسان يغدوا ميتاً، وإن كان يدبُّ دبيب الأحياء، ويفتقد الحركة البصيرة؛ لأنه حينئذٍ يخبط خبط عشواء، ويتردى في الظلمات، ويوغل في الشهوات، وينغمس في المحرمات، ويغرق في الانحرافات، ويغوص في الملذات، فيُغشي ذلك على قلبه، ويعمي بصيرته، ويطفئ نور الإيمان في نفسه، فيغدوا حينئذٍ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (قلبه كالكوز مجخياً -منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلَّا ما أُشرب من هواه) رواه مسلم.

هذا هو القرآن العظيم، في بعض ما وصف الله جل وعلا لنا، فهو -كما أخبر سبحانه- الهداية، وهو الشفاء، وهو الرحمة، وهو النور، وهو الحياة، فكيف يمكن لنا أن نحيا في هذه الدنيا بلا حياةٍ وبلا نورٍ وبلا رحمةٍ وبلا هدايةٍ وبلا شفاء؟! إننا حينئذٍ نحكم على أنفسنا وعلى حياتنا بالتعاسة والشقاء، ونحكم على واقعنا بالظلم والظَلْماء، وهذا هو سر ما يتخبَّط فيه المسلمون بقدر ابتعادهم عن كتاب الله. 

www.islamweb.net