الهزيمة العسكرية في ميادين القتال لا تعني نهاية أمة أبداً؛ لأنه بكل بساطة الأيام دول، والحرب سجال يوم لك ويوم عليك، كل أمم الأرض هُزمت عسكرياً عبر تاريخها؛ ولكنها عادت أقوى مما كانت.
لكن الهزيمة الماحقة التي تذهب ريح الدول، وتشتت الأمم، هزيمة الأخلاق والقيم، فأي أمة خسرت ثقافتها، وأصالتها، أصابتها الهزيمة الماحقة، وضاعة مقومات بقائها.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت | فإنهم ذهبت أخلاقهم ذهبوا | |
إن الهزيمة الثقافية تؤثر على البنية العقلية، والروح المعنوية للمجتمع، وتترك آثاراً نفسية ليس من السهل تجاوزها.
والأجيال التي ضربت عليها الذلة والهزيمة الحضارية، لا تصلح أن تُمكّن في الأرض، ولا يمكن أن يستقيم لها أمر؛ لأنها أشربت الذل والانكسار، واعتادت التبعية، والذيلية، ولن يكون بمقدورها أخذ زمام المبادرة، وستعيش في التيه حتى يُخرج الله من أصلابهم رجالاً، أحراراً أماجد، يعتزون بقيمهم، وينتمون لدينهم، ويفاخرون بمجدهم؛ لا مجد مستعمريهم.
إن التاريخ يشهد أن التتار عندما غزو بلاد المسلمين سحقوها عسكرياً، لكن الأمة انتصرت ثقافياً، وحافظت على دينها، وأصالتها، وثقافتها، فكانت النتائج بعد ذلك أن ذابت قوى التتار في المسلمين؛ لأنهم كانوا مجرد قوى عسكرية، لا يحملون مشروعاً ثقافياً، وليس عندهم أثارة من علم، أو حضارة، فكانت الغلبة لأهل الثقافة والعراقة والدين.
وفي التاريخ الحديث اليابان هُزمت عسكرياً، لكن أهلها تدارسوا أسباب الهزيمة، وبحثوا عن الأسباب التي تجعلهم ينهضون من جديد، وكان أهم عاملين في منع حصول الهزيمة الثقافية لديهم؛ أنهم وضعوا برنامجاً للتعليم ينهض بالجيل الجديد؛ وآخر لاستراتيجية اقتصادية، وخلال سنوات عادت اليابان إلى طليعة الدول المتطورة.
يقول الأستاذ أحمد الرمح: "....ونحن نعيش عصر الهزائم العسكرية المتلاحقة علينا أن نحذر من الوقوع في الهزيمة الثقافية، وعلينا للوقاية من ذلك أن نفهم ديننا فهماً صحيحاً، يختلف عن الفهم الموجود اليوم في أذهاننا، وأن نعود إلى مقاصده الأساسية، التي تجعل العالم ينفتح علينا، ولا يخاف منا، إذ لولا هذا الدين الذي حمى الأمة قروناً رغم الهزائم الكثيرة لكانت أثراً بعد عين.
إن إهمال التحذير القرآني من الوقوع بالأسباب ذاتها التي أدت إلى هزيمة واندثار الأمم السابقة، سيجرنا إلى هزيمة ثقافية يعدُّ الخروج منها أمراً صعباً للغاية.
فما نحتاجه حتى لا ننهزم ثقافياً؟ نحتاج تجديداً في البنية الثقافية للخروج بالمجتمع من قابلية الهزيمة إلى إرادة الانتصار الحضاري، والاهتمام بالتربية المترافقة بالعلوم المعاصرة؛ لإيجاد جيل يؤمن بالقدرة على تحقيق قفزة حضارية، ونهضة علمية".
ويجب ألا ننسى أن الأمة التي تنهزم ثقافياً، سيكون من السهل جداً هزيمتها عسكرياً، واقتصادياً، وسياسياً؛ فالعامل الثقافي كالقفص الصدري الذي يحمي القلب والرئتين، فإنْ تهشم أو ضعف سقط كل شيء خلفه، وبالتالي سينهار الجسد كله.
إننا اليوم أحوج ما نكون لإعادة الثقة في موروثنا الحضاري، وأن نكتشف ذاتنا، وأن نستمد القوة من ديننا، وأصالتنا، وأن نعيد الاعتبار لثقافتنا، وقيمنا العربية، وأن نعرف أننا قلب العالم النابض فبلداننا وسط الكرة الأرضية، وفيها من الموارد، والجواهر ما ليس في غيرها، ونحن أمة فتية أكثرها شباب، عندنا خصوبة الأرض وخيراتها، وعوامل الألفة والوحدة متينة بيننا، إذ المشتركات ممتدة بين المشرق والمغرب، يوحدنا دين، ولسان، وأعراف، وتقاليد، وفوق ذلك ألف الله بين قلوبنا {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}(الأنفال 62).
الغد سيكون مشرقاً، والأجيال القادمة ستكون نواة الوحدة، والاعتصام بحبل الله، والعاقبة للمتقين.