تتسارع الأحداث في القدس، ويتجدد معها مشهد الإبعاد القسري للفلسطينيين عن المسجد الأقصى، ليس كإجراء قانوني بحت، بل كسلاحٍ سياسي وأمني يهدف إلى إفراغ المكان من روّاده، وتغييب الوجود الفلسطيني عن معالمه، في انتهاك واضح لحقوق الإنسان والحريات الدينية.
قرارات الإبعاد سياسة ثابتة
لم يعد الإبعاد عن الأقصى استثناءً، بل بات سياسة ثابتة تتبعها سلطات الاحتلال ضد المصلين، والمرابطين، والنشطاء، وحتى العلماء والشخصيات الدينية. إذ يُسلَّم الفلسطيني قرارًا فجائيًا يمنعه من دخول المسجد لفترة قد تبدأ من أسبوع وتصل إلى شهور، بل وقد تُجدَّد مرارًا دون محاكمة أو مسوغ قانوني واضح.
ذرائع أمنية… واستهداف مباشر للرموز
تحت ذريعة التحريض، طالت قرارات الإبعاد أكثر من 25 شخصية مقدسية بارزة، بينهم نائب مدير عام الأوقاف الإسلامية ناجح بكيرات، وخطيب الأقصى الشيخ عكرمة صبري، والخطيبان إسماعيل نواهضة ومحمد سليم، وذلك عقب دعائهم لغزة في خطبهم.
في السياق ذاته، تم إبعاد أكثر من 13 صحافيًا ومصورًا خلال الفترة الأخيرة، في محاولة لإسكات التغطية الإعلامية للانتهاكات داخل الأقصى وفي محيطه.
أبعاد إنسانية واجتماعية
يظن البعض أن الإبعاد عن مكان عبادة ليس بالأمر الجلل، لكنه في الحالة الفلسطينية يحمل أبعادًا نفسية، واجتماعية، وروحية عميقة. فالمسجد الأقصى بالنسبة للفلسطينيين، وتحديدًا المقدسيين، ليس فقط مكانًا للصلاة، بل هو رمز للوجود، وركيزة من ركائز الهوية، وميدان للصمود اليومي في وجه محاولات التهويد.
مخالفة صريحة للقوانين الدولية
القانون الدولي واضح في حماية حرية الوصول إلى أماكن العبادة، إلا أن سلطات الاحتلال تنتهكه دون حسيب أو رقيب. المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنصّ بوضوح على أن "لكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين"، بما يشمل حرية إقامة الشعائر وممارسة العبادة. فما يحدث في القدس إذًا هو انتهاك ممنهج ومقصود لهذه الحريات الأساسية.
سياسة السيطرة والتهويد
من منظور آخر، فإن سياسة الإبعاد تشكّل امتدادًا لمحاولات فرض السيادة الإسرائيلية على الأقصى، في ظل تزايد اقتحامات المستوطنين، وتواطؤ الشرطة، والتضييق المتصاعد على الفلسطينيين. وليس من المستغرب أن تطال قرارات الإبعاد شخصيات محورية في المشهد المقدسي، كخطباء المسجد، ومرابطات شهيرات، وشباب لا تُهْمة لهم سوى التواجد والتكبير في وجه المستوطنين.
والأخطر أن هذه القرارات تُمارس دون إجراءات قضائية عادلة، وغالبًا ما يُجبر المُبعَد على توقيع تعهدات بعدم الاقتراب من المسجد أو البلدة القديمة، في إجراءات تُذكّر بسياسات الإبعاد العنصري التي كانت تمارس في عهود الظلم البائدة.
ومع كل ذلك، فإن ما يُدهش المتابع هو ثبات المقدسيين، وإصرارهم على التمسك بحقهم في الأقصى، رغم التهديد والإبعاد والغرامات. فكل قرار إبعاد لا يُضعفهم، بل يزيدهم تمسكًا، وكل محاولة لإبعادهم جسديًا تُقابل بحضور روحي ونضالي أقوى.
مسؤولية المجتمع الدولي
إن استمرار المجتمع الدولي في التغاضي عن هذه الانتهاكات، يمنح الاحتلال غطاءً للاستمرار في فرض واقع جديد في القدس، حيث يُعاقَب الفلسطيني على صلاته، وتُمنح الحماية لمن يقتحمون المسجد بوقاحة.
لهذا، فإن الواجب اليوم ليس فقط التضامن، بل المطالبة الصريحة بإلغاء قرارات الإبعاد، ووقف الاعتداءات على حرية العبادة في المسجد الأقصى. لأنه إذا كان من حق أي إنسان أن يصلي بحرية، فإن من حق الفلسطيني أن يصلي في أقدس مساجد بلاده دون إبعاد أو تهديد.