
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل محبته واتباعه سبباً للفوز بالجنة والنجاة من النار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، إن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عن الرحمة المهداة، والنور الذي أضاء الله به ظلمات الجاهلية، فأحيا به القلوب بعد مواتها، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور بإذنه، قال الله تعالى: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128).
لقد امتنَّ الله تعالى على هذه الأمة بأن بعث فيها هذا النبي الكريم، الذي أكرم الله به العالمين، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2).
أيها المؤمنون، إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الإيمان، لا يتم إيمان عبد حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين. ففي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) متفق عليه.
ومعنى المحبة هنا ليس مجرد الميل العاطفي أو المشاعر المجردة، بل هي طاعة واتباع وامتثال؛ لأن المحب الصادق هو من يصدق في اتباع من أحب. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31).
فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم حقًا أطاع أمره، واجتنب نهيه، وآثر سنته على هواه، وقدم قوله على قول من سواه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65).
عباد الله، من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا: الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتعظيمه وتوقيره، والصلاة والسلام عليه، ونشر سنته بين الناس، والدفاع عنه باللسان والقلم والقلب. قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفتح:8-9).
فمن أعظم ما يدل على المحبة الصادقة: الاقتداء به في الأقوال والأفعال والأخلاق، فقد كان صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي على الأرض، جمع مكارم الأخلاق كلها، حتى شهد له ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4).
وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس وأصدقهم لهجة، وأوفاهم عهداً، وأحلمهم صدراً، وأكرمهم عشرة، وألينهم جانباً، وأبعدهم عن الغضب والانتقام لنفسه. وكان يقول: (إنما بعثت لأتمِّم حُسْنَ الأخلاق) رواه مالك، وفي رواية (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) رواه أحمد.
فتأملوا عباد الله حال النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس؛ كيف كان يرحم الصغير ويوقِّر الكبير، ويواسي الفقير، ويعود المريض، ويقبل العذر، ويحلم على الجاهل، ويعفو عن من ظلمه، حتى قال الله تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159).
معاشر المؤمنين، إن محبتنا لنبينا صلى الله عليه وسلم تقتضي أن نكثر من الصلاة والسلام عليه، فهي من أعظم القربات وأجزل الطاعات، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً) رواه مسلم.
معاشر المسلمين، إن حبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ليس مجرد شعار يرفع، بل هو سلوك يظهر في واقعنا، في بيوتنا وأعمالنا وأخلاقنا، في تربيتنا لأبنائنا، وفي تعاملنا مع الناس. فليتأمل كل واحد منا: كم له من نصيب في الاقتداء بنبيه؟ وكم له من حظ في اتباع سنته وهَدْيه؟
أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه على نعمة الإسلام، ونسأله أن يرزقنا اتباع خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).
أيها المسلمون، لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الصبر على البلاء، والرضا بقضاء الله، والجهاد في سبيله، والتضحية من أجل دعوته، حتى أتم الله به الدين، وبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته.
وإن من واجبنا تجاهه صلى الله عليه وسلم أن نعرف قدره، وأن نوقره، وأن نذب عن عرضه، وأن ننشر سنته بين الناس، وأن نكون له دعاة بحق، متمثلين قوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21).
ومن دلائل محبته أيضاً أن نحيا على سنته، ونموت عليها، وأن نحذر من الابتداع في الدين، فإن الخير كل الخير في اتباع نهجه وسنته، والشر كل الشر في مخالفة أمره وترك هديه.
معاشر المؤمنين، لقد ترك لنا نبينا صلى الله عليه وسلم ميراثًا عظيماً هو سنته وهديه، فمن تمسك بها فقد نجا، ومن أعرض عنها فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً، قال صلى الله عليه وسلم: (خلَّفْتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرَّقا حتى يردا على الحوض) رواه الدار قطني.
فلنحرص على تعلم سنته، ونشرها بين الناس، والعمل بها في واقع الحياة، ولنعلم أبناءنا سيرته العطرة؛ كيف عاش لربه، وكيف عامل الناس، وكيف كان قلبه عامراً بالرحمة واللين والتواضع، وحبَّ الخير للناس. فإن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى العودة إلى أخلاق نبيها وهديه وعدله ورحمة قلبه.
صلُّوا وسلموا على نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.