الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل البرية، وسيد البشرية، إمام المتقين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومَن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون: لقد أرسل الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فمكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله، ويقول: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم، قولوا: لا إله إلا الله كلمة أشهد لكم بها عند الله)، ورغم علم قريش بصدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم، كذبوه وسخروا منه، وكانوا يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}(ص:5)، ويقولون: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}(الإسراء:49)..
ولم يكتفوا بذلك، بل تعرضوا له ولأصحابه بالإيذاء الشديد: ومن ذلك الإيذاء الحصار الاقتصادي، وذلك حين كتبوا تلك الصحيفة الظالمة.. فحوصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في شعب بني هاشم ثلاث سنوات حتى اضطروا إلى أن يأكلوا أوراق الشجر، وعانوا من شدة الجوع وقسوة العيش ما عانوه، وكل ذلك من أجل أن يردوهم عن دينهم..
ومع الإيذاء بالحصار الاقتصادي، كان الإيذاء الجسدي، فقد كانوا يأتون بالصحابي بعد إسلامه يجوعونه ويعطشونه، ويلقونه في حر الشمس، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة، ويضربونه بالسياط، ويدفعونه إلى صبيان مكة يتقاذفونه، ويقولون له: واللات والعزى! لا ندعك حتى تكفربمحمد وإله محمد..
ومعلوم مشهور ما فعلوه ببلال رضي الله عنه من شدة التعذيب في الصحراء على رمالها الملتهبة وفي شدة الحر..
وما فعلوه بسمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهما، حتى طعنها عدو الله أبو جهل بحربته، فمضت شهيدة إلى ربها..
وهكذا كان حال كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.
سلوا بلالا وعمارًا ووالده عن السلاسل والرمضاء والألم
أيها الأحبة: لم يَسْلَم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الإيذاء، فقد ناله شيء عظيم من الأذى، وفي يوم من الأيام كان ساجداً عند الكعبة، فقال المشركون بعضهم لبعض: من ينطلق إلى جزور أمعاء وأحشاء جمل بني فلان، فيأتي به فيطرحه على رأس محمد، فانبعث أشقاهم وهو: عقبة بن أبي معيط، فأتى بالقذر والنتن وطرحه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد.. وأحياناً يكون ساجداً فيأتي المشركون بالتراب فيضعونه على رأسه..
ومرة أخرى يذهب رجل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقول له: أدرك صاحبك فإن القوم قاتلوه، فيخرج أبو بكر مسرعاً يجر إزاره، فيجد المشركين قد أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا يشتمه، وهذا يجذبه، فجاء أبو بكر فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}(غافر:28)، فترك القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر يصفعونه ويضربونه، حتى كان عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بالنعل على وجهه، حتى دمى وجهه، وأغشي عليه رضي الله عنه، وحمل إلى بيته وهو لا يعقل شيئاً، فلما أفاق فتح عينيه فقُرب إليه طعام، فكان أول كلام نطق به أن قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير يا أبا بكر! قال: والله! لا أذوق ذواقاً ولا أطعم طعاماً، حتى آتيه فأنظر إليه..
ومع هذا الإيذاء الجسدي للنبي صلى الله عليه وسلم، اتُّهِمَ بالسحر والكذب والحنون وهو الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم..
عباد الله: هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة في هذا الجو المشحون بالأذى والاضطهاد، فأذِن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بأن يخرجوا إلى الحبشة، فخرجوا رضوان الله عليهم بالهجرة الأولى، ثم خرجوا بالهجرة الثانية، وما زال الأذى يشتد ويتفاقم، وما زال الكيد يعظم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأمر مداه، وذلك حين اجتمع القوم ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(الأنفال:30)..
فلما بلغ الأمر بالنبي عليه الصلاة والسلام ذلك المبلغ، أذن لأصحابه بأن يخرجوا إلى المدينة المنورة، وهذا بوحي وبأمر من الله..
وقد يسَّر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم جماعة أخياراً من الأوس والخزرج أتوا إلى مكة فبايعوه البيعة الأولى، ثم كانت البيعة الثانية التي شهدها ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وهي بيعة العقبة الثانية، وهي التي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن يخرج مهاجراً إليهم على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، وأن يدافعوا عنه بكل ما أوتوا، وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تلك البيعة العظيمة التي ترتبت عليها الهجرة النبوية الشريفة المباركة..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل لكل شيء عماداً، وجعل الصلاة لنا ذخراً وزاداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أكمل الأمة إيماناً وصلاةً، وأعظمها عبادةً وجهاداً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه..
أما بعد:
عباد الله: نبينا عليه الصلاة والسلام ما خرج مهاجراً من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ولا أمر أصحابه بالهجرة إلا بأمرٍ من الله عز وجل، وعملاً بقوله سبحانه: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}(العنكبوت:56).. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من هجرته أن المسلم يتمسك بدينه، ولا يتنازل عنه، ولا يترك عبادة ربه، تحت أي ظرف من الظروف، أو ابتلاء من أنواع الابتلاءات..
ثم إنه صلى الله عليه وسلم ما خرج من مكة بغضاً لها، ولا زهداً في الإقامة بها، لكنه عليه الصلاة السلام لما ضاقت عليه مكة، وأبَى أهلها أن يدخلوا في دين الله عز وجل، وتعرضوا له بالإيذاء الشديد هو وأصحابه خرج من مكة مهاجرا..
وفي ليلةِ هجرتِه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى المدينة، وعلى مشارف مكّة وقف يودعُ أرضها التي ولد وترعرع فيها.
فحب الوطن فِطْرة في داخل الإنسان، ينبض به قلبه، ويجري به دمه، ولو كان الوطنُ كثبانَ رملٍ بصحراء، أو تعرض فيه للأذى والبلاء، وإن غادر الإنسان وطنَه لضرورة يبقى الشوق والحنينُ إليه ساكنًا في نفسه ووجدانِه، فإنه المكان الذي وُلِدَ وتربى ونشأ فيه، فالوطن فيه ذكرياتٌ لا تُنسى، فيه الأبناء والآباء والأجداد، والأهل والأحباب والأصحاب، وعلى أرضها بيت الله الحرام، ودعه قائلا: (والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ).. قال الإمام الذهبي مُعَدِّدًا طائفةً من محبوبات النبي صلى الله عليه وسلم: "وكان يحبُّ عائشة، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامة، ويحب سبطَيْه (حفيديه الحسن والحسين)، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه"..
وكما كانت الهجرة من مكة إلى المدينة أمرا صعبا وشاقا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت كذلك على أصحابه رضوان الله عليهم لتركهم بلادهم وديارهم، وإن أصابهم فيها ما أصابهم..
أيها المسلمون: حب المسلم لوطنه، وتمني الخير والعمل على تحصيله له من دروس الهجرة النبوية، وهي فطرة مركوزة في النفوس، ـ حب الوطن ـ يعني: الأخوة والحب، والتعاون والنصرة بين المسلم وإخوانه في مجتمعه الذي يعيش فيه وجميع المسلمين في جميع البلاد، قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)..
فأينما ذُكر اسمُ اللهِ في بلدٍ عددتُ أرجاءه من صلبُ أوطاني
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه..
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وألِّف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين..
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك صلى الله عليه وسلم وعبادكَ المؤمنين..
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.. والحمد لله رب العالمين..